+A
A-

“البلاد” تستعرض كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” للكاتب عبدالنبي الشعلة (الحلقة الثالثة)

كان غاندي في صباه صبيًا مدللًا خجولًا، لا يخرج من بيته ليلًا؛ خوفًا من الأرواح والأشباح والعفاريت والثعابين واللصوص، فتحول لاحقًا إلى رمز للقوة والشجاعة، وإنسان صلب صامد لا يخاف الموت ولا يهاب البطش، تحققت لبلاده على يديه الحرية والاستقلال والكرامة التي انتزعها من براثن واحدة من أعتى قوى العالم وقتها. كان غاندي ثائرًا ومصلحًا وفيلسوفًا ومفكرًا وسياسيًا وقائدًا وقديسًا، إنسانًا يجمع كل هذه الصفات والخصائص في آن واحد، شخصية مميزة ومتميزة، مثقلة بالكثير من التناقضات.

يتناول الكاتب الباحث عبدالنبي الشعلة بكتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين” كيف أثارت شخصية غاندي الكثير من الجدل والتساؤلات إلى درجة التشكيك فيما إذا كانت مظاهر الضعف والهزال والتقشف والانكسار التي كان يبدو فيها مجرد تكتيك وجزء من إستراتيجية مبيتة.

وتنشر “البلاد” على مدار حلقات أبرز ما يتضمنه كتاب “غاندي... وقضايا العرب والمسلمين”.

 

أبحر غاندي إلى لندن بالرغم من التهديد

الهندوس المحافظون يعتبرون السفر خطيئة كبرى

عندما قرّر موهانداس غاندي السفر إلى بريطانيا لاستكمال دراسته، وجد نفسه في صدام ومواجهة مباشرة مع المؤسسة الدينية للطائفة الهندوسية التي كان ينتمي إليها، فبعد أن أنهى دراسته الثانوية توجّه إلى مدينة بومباي في شهر أغسطس 1888م في طريقه إلى لندن، تاركًا وراءه زوجة وطفلًا في رعاية والدته، حاملًا معه طموحات وآمالًا وأحلامًا كبارًا.

كما ذكر لصحيفة “الفجيتيريان” عند مغادرته لندن بعد أن أتم دراسته، قائلًا إنه كان يتصوّر لندن وقتها، وكأنها أرض الفلاسفة والشعراء ومركز الحضارة.

في بومباي، عَلِم رؤساء طائفة “المود بانيا” Modh Bania، وهي الطائفة التي ينتمي إليها غاندي، بنيته للتوجه إلى بريطانيا، فاستدعوه إلى اجتماع حاولوا فيه ثنيه عن السفر، مؤكدين له أن سفرته ستكون ضد تعاليم الدين، فبالنسبة إلى الهندوس المحافظين، في ذلك الوقت، فإن السفر وعبور البحر يعتبر خطيئة كبرى، إلى جانب أن غاندي في لندن سيضطر إلى الأكل والشرب مع الأوروبيين وسيتعود على طريقتهم في الحياة.

دخل غاندي في جولة من الحوار الساخن معهم، ورفض حججهم وتحداهم وأصرّ على قناعته بأنه لا يمكن للدين أن يعترض على رغبة شخص في التعلم، وأنه عازم على الرحيل إلى بريطانيا لهذا الغرض.

ولما سُئل في الاجتماع عما إذا كان سيخالف أوامر الطائفة بعدم السفر، أجاب “إن على الطائفة عدم التدخل في مثل هذه الأمور”، عندها صرخ رئيس الطائفة الذي كان في الاجتماع “يجب أن يعامل هذا الصبي منذ اليوم على أنه خارج على الطائفة”. ولم يعبأ غاندي بتوجيهات وتهديدات المؤسسة الدينية، وغادر بومباي مبحرًا إلى لندن.

 

طبقة المنبوذين تتحوّل إلى “أبناء الله”

مراتب النظام الهندوسي لتصنيف الناس

توارث الهندوس ولقرون عدة نظامًا اجتماعيًّا صارمًا، هرميًّا في هيكليته، مبنيًّا على توزيع وتصنيف الناس بحسب مهنهم إلى 4 أو بالأحرى 5 فئات أو مراتب أو طبقات رئيسة.

ومن لم ينضوِ، أو ليس مؤهلاً للانضواء تحت أي من هذه التقسيمات أو هذه الطبقات الأربع وتفرعاتها، فإنه يُعد خارجها، بل إنه منبوذ منها ويعامل معاملة مُجحفة مُذلة قاسية أسوأ من معاملة العبيد، ويعيش في فقر مدقع، ولا يجوز الاختلاط به أو لمسه، كما لا يجوز له حتى شرب الماء من الآبار الخاصة بالطبقات الأخرى.

رفات الموتى

تتكدس شرائح هائلة من السكان ضمن هذه الطبقة التي تسمى طبقة الـ”داليت” “Dalit” أو المسحوقين أو طبقة المنبوذين، التي تقوم بالأعمال الوضيعة؛ مثل مهام التخلص من رفات الموتى وجثث الحيوانات وكنس الشوارع وتنظيف المراحيض والحمامات والتخلص من النفايات والمخلفات، وما شابه. وقد استحدث غاندي تسمية جديدة لهذه الطبقة وهي “هاريجينز” ومعناها “أبناء الله”.

 

الطبقة

الطبقة

فئاتها

الـ“براهمن” أو البراهمة

الحكماء والنبلاء ورجال الدين والعلم والفلسفة والذين يضطلعون بالمهام الفكرية والقضاء (السلطة التشريعية والسلطة القضائية)

كشاترياس

الحكام والمحاربين الذين تقع على عاتقعهم مسؤولية الحرب والدفاع والإدارة (السلطة التنفيذية)

فيشياس

التجار والحرفيون والمهنيون والمنتجون

شودراس

الكادحون من العمال والفلاحين

الداليت “أسماها غاندي طبقة هاريجينز أيّ أبناء الله”

المنبوذون والمسحوقون الذين يقومون بالأعمال الوضيعة

 

معظم هنود الخليج “بانياس” المحرّفة إلى “بانيان”

كان موهانداس غاندي ينتمي إلى طبقة التجار، التي يتفرّع منها فصائل مختلفة أخرى، منها فصيل “الفانياس” أو “البانياس” التي ينتمي موهانداس إليها.

يشار إلى أن معظم الهنود الذين كانوا يزورون بلدان الخليج للتجارة أو الذين هاجروا إليها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي، وأقاموا فيها بغرض مزاولة التجارة، كانوا ينتمون إلى هذا الفصيل من التجار الهندوس، وكان يطلق عليهم “بانيان”، وهو تحريف بسيط للتسمية الأصلية “بانياس”.

وظلت التسمية المحرفة قليلاً “بانيان” سارية إلى الآن وتطلق على كل الهنود الهندوس المقيمين في الخليج، وليس على تجارهم فقط.

 

إلغاء نظام الطبقات بعد استقلال الهند

عقيدة تناسخ الأرواح تعني عودة روح الإنسان بالأرض

تنقسم مدارس الفكر حول بداية وأصل الفصل أو التقسيم الطبقي إلى مدرستين أساسيتين، الأولى ترى أن هذا التقسيم نابع من الأساطير أو المعتقدات الدينية الهندوسية، وقد وضع أسسه منذ الأزل الإله كرشنا، وهو نظام يرتكز على عقيدة تناسخ الأرواح، التي يؤمن بها الهندوس، والمرتبطة بدورة أو بسلسلة الولادة ثم الموت ثم العودة للحياة وهكذا.

وتستند عقيدة تناسخ الأرواح على أساس عودة أو دوران روح الإنسان في الأرض مرارًا وتكرارًا وتقلبها في زخم متواتر وحركة مستدامة وتنقلها من جسم إلى آخر إلى أن تصل إلى بر الأمان، وهي مرحلة الراحة الأبدية أو مرتبة النورانية “Nirvana”، التي ترجمت إلى الإنجليزية بكلمة “Enlightenment”، التي يتم عند بلوغها إطلاق أو عتق الروح من حلقة الدوران والعودة والتنقل لتستقر في نعيم النورانية وهو الهدف الأسمى للوجود الإنساني كله.

وضمن عقيدة التسلسل أو تناسخ الأرواح، يندرج الإيمان بأن البشر خُلقوا جميعًا في الأساس طيبين صالحين منضوين ضمن الطبقة العليا، وهي طبقة “البراهمة”، وإن الذين لا يُقدِّرون هذه النعمة، ويرتكبون المعاصي والآثام، ويمارسون السوء والفحشاء والرذائل، فإنهم يُعاقَبون ويتم طرد وإسقاط أرواحهم إلى الأسفل، لتنتقل إلى أجسام أي من المخلوقات بما في ذلك أجسام بشر، وعلى أساس حجم الجرم الذي ارتكبوه والإثم الذي اقترفوه أو مستوى الخطيئة التي تورطوا فيها، فإنه يتم تحديد الطبقة التي ستنزلق وتهوي إليها أرواحهم. وبهذا تكونت الطبقات السفلى.

المدرسة الثانية في الفكر المتعلق ببداية وأصل هذا التقسيم، فإنها تؤكد أن هذا الفرز الطبقي ليس له أية علاقة بالدين، وقد جاء في مراحل لاحقة بعد بزوغ الديانة الهندوسية، وجاء نتيجة لموروثات اجتماعية وعادات وتقاليد انبثقت من ممارسات وتخصصات مهنية في سوق العمل آنذاك، وكان المهاتما غاندي من أبرز رواد هذا الفكر.

ولم ينحصر هذا الفرز أو التقسيم الطبقي في إطار الطبقات الأربع أو الخمس المذكورة فقط، بل إنه يتمدد ويتشعب ويتفرع منها إلى 3 آلاف فرع أو فصيل، التي تتفرع بدورها إلى 90 ألف فرع أو فصيل.

 

المقيت

وعلى الرغم من أن هذا النظام قد تم إلغاؤه برمته رسميًّا بعد استقلال الهند، وبعد أن تبنى الشعب الهندي دستوره الذي كتبه أمبادكر، الذي كان ينتمي إلى طبقة المنبوذين، إلا أن جوانب عدة من ذلك النظام المقيت ما تزال قابعة في أوساط بعض المجتمعات الهندية، خصوصًا في المناطق القروية النائية.

 

ديانة غاندي تمزج بين الآلهة والبشر

قرابة شديدة بين الّلاهوتين المسيحي والهندوسي

عندما اقتحم غاندي لُجَّة الميدان السياسي، لم يتردد عن تأكيد هويته وانتمائه الهندوسي أمام المشككين من الهندوس التقليديين المتشددين وغيرهم. الهندوسية، ديانة غاندي، تؤمن بفكرة الامتزاج والتداخل بين الآلهة والبشر، وتجيز التمازج أحيانًا بين الرب والإنسان، ولا ترى بأسًا في تأليه الإنسان وأنسنة الإله، وهي حالة تقترب أو تشابه لحد ما، في بعض جوانبها، مفهوم العلاقة بين الأب والابن والروح القدس في الديانة المسيحية.

فقد جاء في كتاب “لاهوت التجسيد من الهندوسية إلى المسيحية” أن ثالوث الآلهة الهندوسية، الثالوث تريمورتي Trimurti، يتألف من 3 آلهات، الإله براهما Brahma وهو الإله الخالق، وشيفا Shiva وهو الإله المدمر، وفيشنو Vishnu وهو الإله الحافظ، ثلاث آلهات يقومون بالوظائف الكونية، وليس لبراهما أب، فقد وَلَّد نَفسه بِنفسه من زهرة اللوتس.

كذلك الحال بالنسبة للمسيحية، فإن الثالوث الأقدس The Trinity يتكون من ثلاثة أقانيم، الأقنوم الأول هو الله ـ الأب، والأقنوم الثاني هو الله ـ الابن (عيسى بن مريم)، والأقنوم الثالث هو الله ـ الروح القدس. وقد انبثق الأقنوم الثالث (الله ـ الروح القدس) من الأقنوم الأول (الله ـ الأب)، وليس للأقنوم الثاني (عيسى بن مريم) أب، كما هو حال الإله براهما عند الهندوس.

وتؤمن المسيحية بأن المسيح هو الله متجسدًا في صورة بشر محتويًا على كامل جوهر وصفات الله، محافظًا على كامل جوهر وصفات البشر في آن واحد، وذلك كله باتحاد الإله والإنسان فيه.

ويتضح لنا من ذلك القرابة الشديدة بين اللّاهوتين المسيحي والهندوسي في عقيدة تجسد الآلهة على صورة البشر، هذا والهندوسية سبقت المسيحية بزمن طويل”.

وكان المصريون القدماء يعتقدون أيضًا بثالوث إلهي زواياه إيزيس وابنها حوريس وزوجها أوزيريس الذي أنجبت منه من دون مضاجعة.

 

ضد التبشير   وضد الانتقال   من دين لآخر

بعد أن أكمل غاندي رحلته في البحث عن الحقيقة، وبعد أن اكتمل نضجه الديني، أكد تمسكه وقناعته وإيمانه بالديانة الهندوسية.

كان غاندي يؤمن بالتعددية وقبول الآخر واحترامه، وكان ضد التبشير وضد محاولات نقل عقل البشر من دين إلى آخر.

وكان يؤمن بوحدانية الإله أو الله وتعدد الأرباب في آن واحد، وهي حالة يصعب على القارئ المسلم أن يتفهمها دون أن يدرك الفرق بين معنى ومدلول لفظ الرب ولفظ الإله. في بطون الفلسفة الهندوسية كان يؤمن بوحدانية الإله، وأن الله أو الإله واحد أحد، وأن الله واحد متعالٍ بطبيعته، وأن هذا الإله له تجليات وانبثاقات على شكل أرباب عدة.

“أنا لا أعتمد على الطرح الأكاديمي والنظري، إن العمل والإنجاز هما معياري”.

غاندي