+A
A-

لعبة القط والفأر بين المعلن والمشاهد في رمضان.. كيف تهدر الشركات أموالها؟

يكرر عماد عبد الرحمن، وهو محاسب بإحدى الشركات المصرية، حيلة اعتادها لتجاوز إعلانات رمضان الطويلة والمكثفة خلال المسلسلات، إذ يتنقل بين أكثر من محطة لمتابعة أكثر من عمل في نفس الوقت، فعندما تقطع الإعلانات متابعته لبرنامج رامز جلال، ينتقل لمتابعة مسلسل الكبير علي قناة أخرى، وحينما تقطع الإعلانات متابعته لمسلسل الكبير، يعود للبرنامج، فإذا وجد إعلانا، انتقل لقناة ثالثة، ريثما تنتهي الإعلانات في إحدى القناتين اللتين يتابع فيهما عملا رمضانيا.

يقول عماد لـ"البلاد": أفعل ذلك لتنجب الإعلانات الطويلة والمكثفة، التي تمتد لنحو عشر دقائق أحيانا، ما يصيبني وأسرتي بالملل، ويجعلنا عرضة لفقدان التواصل مع أحداث العمل المعروض.

ويمثل ذلك السلوك ظاهرة، لدى كثيرين من المشاهدين الذين استطلعت "البلاد" آراءهم على مدى الأيام الأولى من شهر رمضان، حيث تتكثف وتتزايد نسبة الإعلانات على الفضائيات.

نموذج آخر للهروب من الإعلانات يتبدى في سلوك نبيل أحمد، وهو معلم بالمرحلة الابتدائية ويعمل بالمملكة العربية السعودية، حيث يستغل فرصة ظهور الإعلانات ليسارع بالنهوض لقضاء بعض الأعمال المنزلية المؤجلة، موضحاً في حديثه ل"البلاد"أنه يعيش بمفرده بعيدا عن أسرته بمصر، فيقوم بتحضير مشروب لنفسه، أو الوضوء استعدادا لصلاة العشاء.

أما عبد الرحمن علي، فيستثمر ذلك الوقت الذي يعتبره ضائعا في إجراء الاتصالات الهاتفية أو تصفح الانترنت على هاتف خلال ذلك الوقت، مؤكدا في حديثه ل"البلاد" أن الوضع بات مقلوباً، إذ باتت الإعلانات تتخللها مشاهد المسلسلات والبرامج، لا العكس.

وتهدد تلك الظاهرة بفقدان الإعلانات التليفزيونية الرمضانية لأثرها المستهدف من قبل المعلنين، حيث دأبت الشركات والمؤسسات على دفع الملايين في معظم الفضائيات العربية مقابل دقائق إعلانية يومية في أوقات ذروة المشاهدة عند عرض المسلسلات مع انطلاق مدفع الإفطار.

أما الجيل الجديد، وخصوصا في منطقة الخليج، فيلجأ لمسلك آخر تجنبا لتلك الإعلانات.

تتفق سارة الحدي ودانة خالد، وهما شابتان حديثتا التخرج، على أن الحل هو في تطبيقات المشاهدة أون لاين، مثل تطبيق شاهد أو ووتشات، لكنها غير متاحة لكثيرين نظراً لأنها تتطلب دفع اشتراكات نظير المشاهدة بدون إعلانات.

تقول سارة الحدي، وهي من المنامة، في حديثها ل"البلاد" إنها دأبت على مشاهدة الأعمال الدرامية الرمضانية على هاتفها المحمول عبر أحد تطبيقات المشاهدة المدفوعة، تجنبا للإعلانات المكثفة التي تضيع متعة المشاهدة، وخصوصا أن قطع السياق الدرامي لعرض الإعلانات يجري في لحظة مثيرة للمتابعة.

أما دانة خالد، وهي من المنامة أيضا، فتقول ل"البلاد" إن الإعلانات مضيعة للوقت وتقطع السياق وتبدد الحماس للمتابعة، وهي تعرف كثيرين من صديقاتها يسلكن نفس مسلكها لنفس السبب.

المليادرير ورجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، انتقد كثافة الإعلانات على المسلسلات بما يفوق النسب المتعارف عليها، بتعبيره، رغم أنه أحد المعلنين الكبار عن مشاريع عقارية خلال رمضان، ويختم الإعلان بمشاركته بصوته.

وقال ساويرس: حاولت أن أتفرج من باب العلم بالشيء على المسلسلات، لكن لم يحالفني الحظ وسط هذا الكم المهول من الإعلانات المهول الذي لا يتناسب مع أي نسب دولية".

وأضاف: "دقيقة مسلسل مقابل 20 دقيقة إعلانات أو أكثر، الإعلان الخاص بنا ضاع وسط كل الإعلانات، فوضعته على حسابي على تويتر لكي لا يفوتكم".

صراع التقليدي والحديث على كعكة الاعلانات
ويتسق سلوك ساويرس بوضع إعلانه على مواقع التواصل بما توصلت إليه أحدث الإحصائيات التي وردت في تقرير للنسخة الثامنة والعشرين من استطلاع "CMO" العالمي للمعايير التسويقية، الذي نقلته مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو"، لافتا إلى أن المسوِّقين خلال السنوات العشر من 2012 الى 2022، سجّلوا تراجعا تدريجيا في إنتاج الاعلانات عبر وسائل الإعلام التقليدية، مع تزايد سنوي في ميزانيات التسويق الرقمي.

وبحسب التقرير، هيمنت خلال السنوات من 2012 إلى 2022 وسائل التسويق الإلكتروني بشكل متصاعد على سوق الإعلانات مع تزايد الاستخدام العالمي لشبكة الإنترنت وأجهزة الهواتف الذكية.

وجعل هذا التحول ميزانيات التسويق الرقمي وآلياته تتقدم بوصفها أولوية لدى الشركات، مع عزوف المزيد من المستهلكين عن قضاء وقت أطول أمام وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفزيون والراديو والصحف، والاعتماد بشكل كامل على شبكة الإنترنت طوال اليوم.

وسجل المسوِّقون خلال السنوات العشر المذكورة تراجعا تدريجيا في إنتاج الإعلانات عبر وسائل الإعلام التقليدية بنسبة 1.4% في الفترة ما بين 2012-2022، مع تزايد سنوي في ميزانيات التسويق الرقمي خلال الفترة نفسها وصل إلى 7.8%.

ورغم دلك، فإن الفترة الماضية أيضا قد شهدت اتجاها لعودة مسوِّقين مرة أخرى إلى وسائل التسويق التقليدية، حتى إن بعض الشركات والمنتجات التي خصصت كامل مواردها فيما سبق للتسويق الرقمي عادت -بحسب "هارفارد بيزنس ريفيو"- لتخصيص ميزانيات معتبرة للتسويق عبر الوسائل التقليدية.

ويرى مختصون بالتسويق والإعلان أن الإعلان التلفزيوني لايزال من أهم أدوات التسويق والترويج للمنتجات والخدمات، خاصةً عندما يتم دمجها في المسلسلات ذات الشعبية الكبيرة.

المفاجأة كانت في الاستطلاع الذي أجرته "Marketingsherpa" وبين أن المراكز الخمسة الأولى كسبا لثقة المستهلكين من جميع وسائل الإعلان هي وسائل الإعلان التقليدية.

وتصدرت الصحف المطبوعة القائمة، حيث نالت ثقة 82% من المستهلكين، ثم الإعلانات التلفزيونية بنسبة 80%، ثم البريد التقليدي والإعلانات عبر الراديو.

وهذه الوسائل كانت هي الأكثر تأثيرا في قرارات الشراء من قِبل المُستهلكين بشكل أكبر من وسائل الإعلان عبر أدوات التواصل الاجتماعي التي يعتبرها الكثيرون مُضللة وغير واقعية، وهو ما يجعل وسائل الإعلان التقليدية تعود إلى دائرة اهتمام المسوِّقين.

مسئول تسويق بإحدى الشركات رفض ذكر اسمه قال في حديث للبلاد، إنه يعتبر الإعلان المعروض على الشاشة هو الأجدى، مدركاً عدم فعالية الحيل التقليدية لإيصال الرسالة الإعلانية عبر الاستعانة بنجوم لأداء الإعلان المباشر، ولذلك يلجأ لحيلة أخرى باتفاق مع منتجي وصناع العمل، وهو الإعلان المتضمن داخل العمل نفسه، حيث يتم ذكر اسم المؤسسة أو التعرض لاسم المؤسسة بأحد المشاهد على لسان الأبطال، مع تكرار ذلك في أكثر من عمل.

ولا تصلح تلك الحيلة لتمرير الإعلان لوعي المشاهد في كثير من الحالات، فهي أجدى لترويج الثابت لا المتغير، مثل اسم المؤسسة نفسها، أو اسم منتج ثابت، لا اسم منتج متغير، لضمان استمرار الفائدة من ذكر الاسم مع إعادة عرض العمل الفني خلال السنوات القادمة.

ويعيب هذه الطريقة أنها لا يمكنها تحديد الجمهور المستهدف للإعلان وتصميمه بما يتناسب مع احتياجاتهم واهتماماتهم.

وتؤكد الدراسات الخاصة بالتسويق والإعلان أن الإعلانات القصيرة لمدة 15-30 ثانية هي الأنسب للإعلانات ذات الرسالة الواحدة.

وحول العلاقة بين التعرض للإعلانات الغنائية التلفزيونية في رمضان 2022 وإدراك الجمهور للعلامة التجارية، قالت أستاذ الصحافة المساعد بكلية الإعلام وتكنولوجيا الاتصال أسماء محمد، إن الإعلانات التليفزيونية يعيبها مؤخرا الإطالة المبالغ فيها، وغياب وعدم وضوح للرسالة الإعلانية، في ظل سيطرة نجوم الفن والغناء على المساحات الإعلانية لدرجة طغت على المنتجات، إضافة إلى عدم مراعاتها لقيم المجتمع.

وتوصلت الدراسة التي أجرتها الباحثة حول الإعلان التليفزيوني إلى تراجع اهتمام الجمهور بمتابعة الإعلانات الغنائية التلفزيونية في شهر رمضان، كما تؤثر شهرة نجوم الفن والغناء أحيانًا على العلامة التجارية للمنتج، علاوة علي أنه توجد علاقة ارتباطية دالة إحصائيا بين كثافة تعرض المبحوث للإعلانات التلفزيونية الغنائية في رمضان وإدراكهم للعلامة التجارية.


تكاليف ضخمة ومجاملات فجة
الفاصل الإعلاني يطلق عليه بلغة الإعلانات مُصطلح "سبوت" (SPOT)، وبحسب تقارير إعلامية، فإن الإعلانات التي تُبث في بعض القنوات الفضائية خلال توقيت مدفع الإفطار -التوقيت الذي تتحقق فيه أعلى نسبة مشاهدة يوميا- تُكلِّف ما بين أربعين إلى خمسين الف دولار، لكل إعلان مدته 10 ثوانٍ فقط.

ويضج سوق الإعلانات بالمجاملات التي ربما لا تعود بالنفع على المعلنين، حال كان مسئول التسويق غير كفؤ أو غير أمين، حيث يلاحظ خبراء في التسويق أن كثيرا من الإعلانات يركز على اسم المؤسسة أو البنك، رغم شهرة الاسم وعدم احتياجه لترويج، أو أن يتحدث عن منتج بشكل غامض، يكون فيه التركيز على بطل الإعلان مجاملة له، لا على المنتج نفسه مما يضيع جدواه.

وينصح الخبراء المعنيين بأن يركز كل إعلان حول فكرتين تسويقيتين رئيسيتين: إما زيادة وعي المشاهدين بعلامة تجارية معينة (Brand Awareness)، وإما تحقيق زيادة في المبيعات أو التبرعات (Generate Sale).