+A
A-

“الإثنين الأسود” في أعين رواد “وول ستريت” الذين عايشوه

قبل 30 عامًا، وفي التاسع عشر من أكتوبر عام 1987 تحديدًا، شهد سوق الأسهم الأميركي أكبر انهيار يومي في التاريخ، عندما هبط بنسبة 23 % خلال جلسة واحدة، في واقعة أعادت تعريف المشهد المالي للمحترفين.

وكان أحد أهم هؤلاء المحترفين، هو رجل المبيعات البارز لدى “سالومون براذرز” مايكل لويس والذي قال عما حدث فيما بعد: الأسواق في حالة ذعر، كما لو أن البلاد تشهد انقلابًا عسكريًّا.

وعرف هذا اليوم منذ ذلك الحين بـ”الاثنين الأسود” وبات جزءًا أصيلًا من التاريخ المالي، وحلقة فاصلة بين الأسواق قديمًا وحديثًا، حيث كانت أول حالة من نوعها منذ استخدام الحاسوب، بحسب تقرير لـ”بلومبيرغ” يتناول هذا الجزء منه ملامح الانهيار وأبرز أحداث ما قبل الحدث.

وحينها كانت سوق خيارات الأسهم الوليدة تعتمد على ما يعرف بنموذج “بلاك سكولز” للتسعير، لكن بفضل الأزمة تم استبداله بنظام أكثر تعقيدًا، كما اضطر رئيس الاحتياطي الفيدرالي حينها آلان جرينسبان بعد شهرين من تعيينه لإصدار حزمة من السياسات لاحتواء الذعر في الأسواق.

الرابحون فقط يريدون التذكر

معظم الراغبين في مشاركة ذكرياتهم حول “الإثنين الأسود” يعتبرون أنفسهم فائزين اقنتصوا الحادث كفرصة ليس فقط لكسب المال وإنما لإدراج أنفسهم ضمن النظام المالي الجديد، مثل “بول تودور جونز” و”ستانلي دروكنميلر” و”نسيم نيكولاس طالب”.

وتعد رحلة صعود هؤلاء جنبًا إلى جنب مع الانهيار قصة لميلاد الأسواق المالية الحديثة، فهي رحلة بدأت من رحم الصدمة، والاضطراب، وبالنسبة للبعض أسست للمجد.

وخلال الأسابيع القليلة التي سبقت الانهيار، رصد عدد قليل من المستثمرين بعض المؤشرات التي استوقفتهم، وكان “بول جونز” و”بيتر بوريش” الشريكان في صندوق تحوط صغير الأكثر ثقة بين الجميع، وأصدرا مذكرة تحذر من الشراء.

وشغل “بوريش” منصب رئيس الأبحاث في “تودور إنفستمنت” وكان “جونز” الرجل الثاني بعده، يقولان: كنا نتتبع التحركات الأسية في سوق الأسهم، وأول تحرك رئيسي من هذا النوع حدث في عشرينيات القرن الماضي.

ويضيف الرجلان أن ما حدث في 1987 بدا متطابقًا مع ما وقع في العشرينيات، وقبل أسبوع من “الإثنين الأسود” كانا يعتقدان أن الإثنين هو اليوم الذي سيشهد تكرار هذا الأمر وفقًا للمؤشرات الأساسية والفنية.

واستوقف رئيس تداولات السندات الحكومية في “بانكرز ترست” “آلان روجرز” تباين أداء السندات عن الأسهم خلال السبعة أشهر الأولى من عام 1987، حيث سلكت السندات مسارًا هبوطيًا على عكس الأسهم التي تمتعت بموجة صعودية.

ومثل هذه التحركات عادة ما تحظى باهتمام شديد من “روجرز” الذي أقنع الإدارة في سبتمبر بتغطية جميع مراكز الشركة المالية المتعلقة بمصادر الدخل الثابت السيادي، وبدء شراء السندات وأذون الخزانة.

 

تحركات ما قبل العاصفة

قبل أسبوع أو أسبوعين على أقصى تقدير، أعلن مصرف “سالومون براذرز” خفضًا بالوظائف، وإعادة هيكلة بعض الإدارات، فيما بدا قرارًا متسرعًا وربما غير مدروس، ووصفه “مايكل لويس” بالخطوة التي لم يفهمها أحد.

وكان من المقرر أن تطرح شركة الهواتف “نيبون تيل” اليابانية أسهمها للاكتتاب العام في منتصف أغسطس حيث اعتقد “روجرز” أنها ستسحب الكثير من الأموال من قطاعات أخرى في السوق.

وفي أوائل أكتوبر، كان هناك موعد لاكتتاب عام آخر لشركة بريطانية كبيرة، وعادة ما يهتم “روجرز” بمثل هذه الاكتتابات إذ يقول: الشيء الرئيسي الذي ألتفت إليه هو التغيرات في تدفقات الأموال العالمية.

وكانت خيارات العملة غير مكلفة نهائيًّا، لذا ركز عليها متداول خيارات العملة الأجنبية لدى “فيرست بوسطن” “نسيم طالب” صاحب كتاب “البجعة السوداء”، والذي قال إنه هذه الأدوات كانت عند أرخص مستوياتها خلال فترة طويلة.

وفي استعراضه لما كانت عليه الأوضاع قبل الانهيار، قال نائب رئيس وحدة الدخل الثابت التابعة لـ”سالومون براذرز” إيريك روزنفيلد إن في ليلة الجمعة انخفض مؤشر “داو جونز” بنسبة 4 % بوتيرة يومية، وبنسبة 10 % أسبوعيًّا.

ويضيف “روزنفيلد” عن ليلة الجمعة “في هذا اليوم خرجت مع زوجتي للعشاء، وكان بجوارنا شاب وفتاة، وكان الشاب يخبر رفيقته أنه وضع كل أمواله في السوق عند الإغلاق وكيف سيتمكن من تحقيق أرباح طائلة من هذه الخطوة، بينما كنت أقول أنا في قرارة نفسي، إنها لا ينبغي أن تكمل حياتها مع هذا الرجل”.

 

البداية من أميركا

أعتقد الكثيرون أن السوق الياباني سيهبط قبل نظيره الأميركي، لكن بالتمعن في انهيار العشرينيات، يتضح أن السوق البريطاني الذي اعتبر آنذاك أقدم الأسواق من حيث الحفاظ على الاتجاه الصعودي، كان أول من سقط خلال الأزمة.

ولذا قال “بوريش” إن السوق الأقدم هو أول من سينهار، لأن الناس يراهنون أكثر على الأحدث، وهو ما صح، ولم يتهاو السوق الياباني بشكل كبير حتى عام 1989.

وراهن مؤسس “دوكسين كابيتال مانجمنت” “ستانلي دروكنملير” في جمعة ما قبل الانهيار على أن الأسهم الأمريكية ستشهد موجة صعودية لأن خسائرها الأسبوعية الأخيرة كان مبالغًا فيها.

وقال “دروكنملير”: خلال عطلة نهاية الأسبوع وبعد دراسة الرسوم البيانية والتحدث إلى “جاك”  قال: صديقي تبين أني كنت مخطئًا.

وبينما حدد “دروكنملير” وجهته خلال عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة قبل الانهيار، أخبر وزير الخزانة الأميركي جيمس بيكر نظيره الألماني إما أن يرفع قيمة المارك أو سيتم تخفيض قيمة الدولار.

وعلق بول تودور جونز على تصريحات بيكر بالقول “إن تهديدات وزير الخزانة الأميركي خلال عطلة نهاية الأسبوع لم تدع مجالًا للشك بأن الإثنين هو موعد الزلزال”.

الإثنين الأسود

وفي صباح الإثنين استغل “دروكنملير” موجة صعودية محدودة للغاية لبيع الأسهم التي اشتراها يوم الجمعة.

وكان مايكل لويس يقيم في المملكة المتحدة بالأساس، لكنه حضر إلى نيويورك لإلقاء كلمة خلال برنامج تدريبي لبنك”سالومون براذرز”.

ويقول لويس عن الانهيار: كنت في الطابق الحادي والأربعين حيث أعمال السندات، ومن ثم نزلت إلى الطابق الأربعين المظلم والكئيب بعض الشيء والمزدحم، حيث كان الجميع يصرخون ويتحركون بشكل جنوني، لقد كانت تجربة مفزعة.

ويضيف “كانت المرة الأولى خلال عملي في “سالومون براذرز” التي أهتم فعلًا بالوقوف قرب قسم الأسهم ومشاهدة العاملين به، ثم جالست الرئيس التنفيذي لمدة 45 دقيقة، لم يبدو خلالها قادرًا على تفسير الفوضى”.

وتحول كل شيء للون الأحمر وتملّك الخوف الجميع، لكن ذلك شجع “بول تودور جونز” كي يبدأ عمليات شراء مكثفة لمصادر الدخل الثابت عند إغلاق التعاملات، إيمانًا منه بأن الاحتياطي الفيدرالي سيتفاعل مع الأزمة.

وفي نهاية اليوم جاءت امرأة مذعورة إلى “نسيم نيكولاس طالب” وسألته هل تعرف ماذا يجري؟ وعندما التفت إليها وجدها في حالة خوف شديدة لينتبه إلى أن شيئا ما يحدث.

وبدأ في الاتصال بأصدقائه للاطمئنان عليهم بعدما أدرك أن خطبًا جلل قد وقع، ثم هاتفه ابن عمه الذي أخبره أن الشرطة انتشرت بالشارع عنده، ليتضح فيما بعد أن رجلًا انتحر قرب منزله.

ويقول طالب: لم يكن الإثنين هو يوم التداول الكبير، لقد كان الثلاثاء، حيث ارتفعت العقود الآجلة لـ”يورودولار” بنحو 375 نقطة أساس خلال بداية الجلسة.

وفي التاسعة من صباح الثلاثاء، أصدر جرينسبان بيانًا من جملة واحدة جاء فيه: تماشيًا مع مسؤولياته كبنك مركزي للأمة، يؤكد الاحتياطي الفيدرالي استعداده للعمل كمصدر للسيولة من أجل دعم النظام الاقتصادي والمالي.

وعقب هذا البيان، ارتفعت أسواق الدخل الثابت بشكل قوي، لكن المستثمرين ظلوا متخوفين إزاء الدخول لأي من الأسواق.

ولم يتحدث أحد عن التحركات التي شهدتها العقود الآجلة لـ”يورودولار” أو عقود خيارات العملة، لأنها سوق محترفة للغاية، لذا كان الثلاثاء يومًا عظيمًا بالنسبة لـ”طالب”.

ويؤكد طالب أنه لولا تحركات الفيدرالي لكان النظام المالي أنظف (على حد قوله) لكن ذلك كان ليتسبب في حمامات من الدماء.

 

رابحون بالجملة

ويقول طالب “بعد الحدث أيقنت أنني على حق بشأن خيارات العملة وأن الجميع سيأخذ ملاحظتي عنها على محمل الجد، لقد جنيت الكثير من الأموال، وشعرت بالاعتزاز”.

وبينما اعتقد الجميع أن صندوق “تودور” جنى أرباحًا من بيع الأسهم، لم تكن السيولة متوافرة، وأتيحت الكثير من الفرص في عقود السندات، على خلفية الاعتقاد بأن الاحتياطي الفيدرالي سيوفر الكثير من السيولة.

وبشكل عام تمكن الصندوق من تحقيق مكاسب نسبتها 200 % على مدار عام 1987، و62 % فقط خلال شهر أكتوبر.

ورغم أن مؤشر “داو جونز” هبط أكثر من 22 % خلال الإثنين، وبنسبة 13 % على مدار الأسبوع بأكمله، إلا أن “دروكنملير” حقق أرباحًا كبيرة بفضل مبيعاته الصباحية.