يُروى أنّ مجموعة من الرجال جاءوا بشابٍ إلى الخليفة الراشدي الرابع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وقالوا: يا أمير المؤمنين اقتصّ لنا من هذا الشاب الذي قتل والدنا. فسأله: لِمَ قتلته؟ قال: أنا أمتهن الرعي فأكلت إحدى النوق من أرض أبيهم؛ فضربها أبوهم بحجرٍ فماتت. فأمسكتُ بنفس الحجر وضربتُ أباهم فمات! فقال الخليفة: إذا سأُقيم عليك الحدّ. قال الشاب: أمهلني ثلاثة أيام، فقد مات أبي وترك لنا كنزاً. فقال الخليفة: ومَنْ يضمنك؟ قال: هذا، ويُشير للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رض)، فقال له الخليفة: وهل تضمنه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: لكنّك لا تعرفه، وإنْ هرب أقمت عليك الحدّ. بعدها رحل الشاب، ومرّ اليوم الأول والثاني والثالث حتى وصل وهو يلهث، وقد اشتدّ عليه التّعب. فاستغرب الخليفة وقال: ما الذي أرجعك وكان يُمكنُك الهرب؟ فأجاب الشاب: خَشِيْتُ أنْ يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس؛ فتأثر أولاد القتيل وعفوا عنه!
عُدّتْ الواقعة المأثورة نبراساً يُؤرخ ما استندت عليه الشرائع السماوية في تحريمها نقض العهود ونكث المواثيق في صفحات كتبها المقدسة، والتي جرّمتها تباعاً القوانين الوضعية بلوائح نصوصها المُلزمة، حيث تتولدّ عنها الكثير من الأمراض الاجتماعية بعد أنْ تجرّدت النّفس الإنسانية من وُصُوف التراحم وتأصلّت فيها نُعوت الشرور وتعمّقت عنها قساوة القلوب المُوْلِجَة إلى ضلالة السُبُل وتحريم الطيبات وجناية النفوس وبثّ العداوات وإضعاف العلاقات وهدم الروابط وتعميق الوساوس، وصولاً إلى بُغاة التشاحن ومُسَلِطِي الأعداء وطالبي الثأر حتى بدت مظاهر ذلك بيننا – مثالاً لا حصراً - في استباحة حرمة الجار واستحلال عرض الصديق ومماطلة إرجاع الحقوق ونهب صيوع اليتيم واختلاس أموال الكفيل و... إلخ!
نافلة:
صفة التغليظ في قانون العقوبات البحريني رقم (5) لسنة 2019م الذي يُعاقب فيه كل مَنْ اختلس مالاً أو سندات أو أوراقاً ذات قيمة مالية أو تجارية أو معنوية وُجِدَتْ في حيازته بسبب عمله أو منصبه بالحبس مدة لا تزيد على عشر سنوات؛ ترجمت بواقعية مطلقة عِظَمَ تداعيات نكث العهود ونقض المواثيق على الأفراد والمجتمعات التي تصدّى لها الشارع البحريني بشقيها الشرعي والمدني، بأنْ حدّد أركانها المادية والمعنوية واشتراطاتها، وأرفقها بعقوباتها المُشددة بالسجن المُحتّم وإرجاع الحقّ المُخْتَلَس.
كاتب وأكاديمي بحريني