إلى أين يمضي عالمنا وما هي أبعاد المخاطر التي تتهدده وكيف ستؤثر على حياة البشر في العقود القادمة؟ الأسئلة كما علمتنا الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، ذلك أنها تطرح أمامنا آفاقا عريضة من التفكير، وتقدم مجالات واسعة من التفكير، وهي بذلك على العكس من الإجابات المحدودة بسقوف لا تستطيع أن تتجاوزها. لماذا انفك حبل الوصال الأممي في العقود الأخيرة، بنوع خاص منذ بدايات الألفية الجديدة؟
يمكن القطع بأن أولئك الذين فرحوا بسقوط الاتحاد السوفييتي والاستئثار بالمشهد العالمي، ربما أدركوا الآن أن رهاناتهم لم تكن صائبة، فالحياة جبلت على الثنائية الخلاقة منذ البداية، الليل والنهار، الشمس والقمر، الخير والشر.
والأمر نفسه انسحب منذ الآباء الأوائل على الممالك والامبراطوريات والتجمعات البشرية، فكانت هناك حضارات متباينة، ولم يكن شرط أن تتصارع فيما بينها، بل عرفت غالبيتها أنواعا عديدة من التعاون، منها ما قصته علينا كتب التاريخ، ومنها ما لم تقصص.
حين تبلورت الدول في شكلها النموذجي قبل ألفي عام تقريبا، وجدت الامبراطورية الفارسية، وفي مواجهتها نظيرتها الرومانية، وامتدت سياقات المواجهات إلى أن بلغت الامبراطورية الفرنسية ومعها الإنجليزية، ووصل الحال بالعالم إلى حلفي الناتو ووارسو، بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي فرض نوعا من التوازن، وأرسى علامات واضحة من التعاملات الدولية، لم يقدر لأحدهما أن يخرقها انطلاقا من إدراكه للند المواجه له. هذا النموذج الدولي تغير وبات العالم اليوم في حالة سيولة جيوسياسية، ولم تعد المظلة الأممية المعروفة باسم الأمم المتحدة قادرة أدبيا على الأقل، أن ترفع من صوتها في مواجهة الخروقات التي تقوم بها القوى الدولية الكبرى، ولهذا لم يكن غريبا أو عجيبا أن يتساءل البعض هل المشهد الحالي يقودنا إلى القول إن نظام وشريعة ما قبل الإنسان العاقل، عادا أو هما على الأرجح في طريق العودة مرة جديدة؟
لعل السؤال الحقيق بنا طرحه هل العالم على موعد مع تغير جذري في الأنظمة والمعارف والقوى المؤسساتية الحاكمة بعد نحو خمسة قرون من سيطرة الغرب بنوع خاص؟
أميركا ومنذ تسعينات القرن الماضي، اتفقت فيما بينها على أن تتسيد العالم، وأن يضحى القرن الحادي والعشرون قرنا أميركيا بامتياز، غير أن تقديراتها ربما لم تأخذ في الحسبان عودة روسيا، وصحوة الصين مرة جديدة، الأمر الذي يعيد التذكير بتحذيرات نابليون بونابرت من عودة الصينيين إلى سماء الحياة الأممية.
الصين اليوم تعيد نجاحات أوروبا في القرون الوسطى، حين نجحت في الحصول على موارد العالم الفقير والمستعمر بالقوة، والأمر المختلف أن الصين لا تباشر حروبا أو غزوات بقوة السلاح، إنما بقوة منتجاتها التي غزت العالم، وتسبب وجعا كبيرا في رأس واشنطن.
أما عن روسيا فحدث ولا حرج، فهي على الرغم من ضآلة موازنتها العسكرية تجاه موازنة أميركا التي تتجاوزها عشر مرات وأكثر، لا تزال مهددا كبيرا بترسانة صواريخها النووية القادرة على إبادة ولايات بأكملها.
عطفا على ذلك، فقد باتت روسيا مرحبا بها في كثير من بقاع وأصقاع العالم، من دون آيديولوجيا، كما أن أسلحتها الحديثة سيما الفرط صوتية منها، بجانب المستحدثة جدا، مثل الصاروخ سارامات، جميعها تؤكد أن روسيا عائدة بقوة إلى السماوات العالمية القطبية.
هل أهملنا في هذه القراءة النظر إلى بؤرتين جغرافيتين مهمتين للغاية حول العالم؟
بلا شك لابد من العودة إلى أوروبا وموضعها وموقعها في هذا العالم غير المتناسق من جهة، واليابان التي سئمت من أن تكون تابعا للولايات المتحدة.
إلى حديث آخر.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية