+A
A-

الجودر يشارك ببحث مهم في مؤتمر الموسيقى العربية

شارك الباحث الدكتور عصام الجودر في مؤتمر الموسيقى العربية التاسع والعشرين في القاهرة بدار الأوبرا تحت محور رئيس (مستقبل الموسيقى العربية، ما بعد الأزمة)، علماً بأن المؤتمر مُصاحباً لمهرجان الموسيقى العربية.

وجاء عنوان بحث الدكتور عصام الجودر "أثر الجائحة في مكان الموسيقى"، حيثُ يتخوف الباحث من التبعات السلبية ما بعد انتهاء الأزمة –  إن كان لها أن تنتهي – وتعود الناس على الفعاليات والأنشطة الإفتراضية الثقافية بشكلٍ عام والموسيقية والغنائية بشكلٍ خاص.

بدأ البحث بشرح المقصود بالمكان في الموسيقى فهو برأي الباحث " المكان هنا ليس فقط دور الأوبرا وقاعات الموسيقى والمسارح، بل كُل ما يجمع المؤدي عازفاً أو مغنياً مع المتلقي أي الجمهور، فالمكان ممكن أن يكون ساحة عامة ، بيوت ثقافية ، مكتبات ، مصحات ، دور للمسنين ، وغيرهِ من أمكنة تجمع المؤدي بالجمهور."

وللمكان تأثيراً مُباشراً على الموسيقى، فمن حيث الحجم يُحدِّد حجم الفرقة والبرامج التي تؤديها، ضارباً – الجودر – مثلاً بقاعتي الموسيقى في دار الأوبرا المصرية، فالمسرح الكبير يُقدِّم أعمال الأوركسترات الضخمة مثل أوركسترا القاهرة السيمفوني ، والفرقة القومية للموسيقى العربية ، وحفلات الأوبرا والباليه ، وغيره مما يتطلب خشبة مسرح كبيرة، أما المسرح الصغير فيُقدم عليه التخت الشرقي أو مجموعات موسيقى الحجرة ، أو أوركسترا ولكن أصغر مما يقدم على المسرح الكبير. ويوضح الباحث هنا بأن الفروق لا تقتصر على تضخيم الصوت من خلال زيادة عدد العازفين ، وإنما التنوع اللوني للأصوات الموسيقية في الفرق الكبيرة التي تزيد عن الفرق الصغيرة ، وكذلك طبيعة البرامج الموسيقية والغنائية التي تقدمها الفرق المُختلفة على المسرحين ، فإذن حجم المسرح (المكان) له تأثير مباشر وصريح على نوع الموسيقى.

المكان في بعض الحالات يؤثر على طريقة التأليف الموسيقي ، فالكاتدرائيات القديمة من العصور الوسطى على النمط القوطي ، وذات الأسقف العالية والجداران غير المستوية ، أثراً في أن يكون الإمتداد الصوتي أكثر طولاً عنه في قاعات الموسيقى التقليدية، المُختلفة هندسياً، مما أثر على طبيعة تأليف الألحان الجريجوريانية . كذلك في صالونات قصور النبلاء والأمراء في أوروبا ، حيثُ كان يتم تقديم برامج لمجموعات موسيقية صغيرة سُميت بموسيقى الحجرة أو موسيقى الصالون ، ما يؤكد أن المكان يفرض شروطه في تحديد حجم الفرق الموسيقية ، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل أيضاً ما يُقدم من برامج ، ففي القصور كان يُقدم أعمالاً موسيقية وغنائية تتناسب والذائقة الإرستقراطية وبما يختلف عن ذائقة عامة الناس من المجتمعات الأوروبية.

إن للمكان أي المسرح قِدرَة على نسج علاقة بين المؤدي والمتلقي تتلخص في أوجهٍ ثلاثة رئيسة ، فيزيائية ونفسية وإبداعية جمالية. فبالنسبة للجانب الفيزيائي فإن تلقي صوت المغني أو العازف مباشرةً ودون أي أجهزة ، له تأثير مباشر ومُختلف ومؤثر. أما من الناحية النفسية فإن قُرب المتلقي من المؤدي أو المؤدين يُولّد شعوراً بالإنتماء ، والخصوصية التي تربطهما بعكس المُتلقي الذي يستمع في عزلته ولم يتسنَّ له حضور مكان العرض.

بدأت ملامح تحييد المكان عندما أخذَت طباعة المدونات الموسيقية تزدهر في أوروبا، ما أدى إلى إنتشار أعمال كثير من المؤلفين الموسيقيين داخل وخارج أقطارهم. ومن أقدم وأهم الإختراعات البشرية والتي تتصل بالموسيقى كان ما تمخض من تجارب قام بها توماس أديسون من جهة وجراهام بيل من جهة أُخرى  في مجال تسجيل الصوت وإمكانية إنتقاله من مكان إلى آخر، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيثُ كانت لهذه الشخصيتين وتجاربهما الأثر الكبير في زعزعة عرش المكان.

إن المرحلة التي نعيشُها ونحن على مشارف العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين تَكَشَّفَ لنا أن المفاهيم التي سادت في زمن ما قبل القرن العشرين قد توارت واندثرت، فمفهوم التذوق والتلقي الذي كان مبني على الإحتكاك المُباشر بالمُبدع، قد فقد جاذبيته وقلت أهميته بسبب طغيان البدائل الإفتراضية غير المحدودة.  ومع ذلك فإنَّ أهمية المكان ستبقى ، فهو الهوية والذكرى والحاجة والروح، وعادةً ما ينتج "عن العرض الحي أو المُباشر تفاعل بين المؤدي مع الحضور"، وهو سيختفي عند إستبدال ذلك بالحفلات الإفتراضية.

إلاّ أن المكان سيظل يحمل أهميته فهو الدفء ، الحميمية ، الألفة ، العلاقة ، التفاعل ، الإرتباط ، الذكرى ، الإنتماء وأكثر من ذلك. لا معنى دون مكان، ولا جدوى من فصل المكان عن حضوره وإحيائه وتشكيله ومعايشته والشعور به، وكما يُقال "المكان بالمَكين"، حيثُ لا يأخذ أي مكان هويته إلاّ بحضور الإنسان وتفاعله معه، فبحضور جمهورٍ ما إلى حفل موسيقي يكون للقاعة طعماً ولوناً وهوية.