+A
A-

نظرة على المستقبل من خلف جدران العزل!

من المسلم به أن الحقيقة في كل الظروف والأوقات هي مصدر أمان واستقرار روحي ونفسي للناس، خاصة في الظروف الاستثنائية عندما تواجه المجتمعات بعض الأزمات أو الكوارث، والسبب أن الحقيقة تكون قادرة دائماً على ترسيخ قناعات وإيمان الناس، وبالتالي تحفيزهم على التفاعل الإيجابي مع كل الإجراءات والقرارات التي تقدم عليها الدولة، والقبول بها طوعاً واستجابة لوازع المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية للفرد – المواطن – تجاه وطنه ومجتمعه، ولكن كما يقال: فأن الحقيقة لا تعطى نفسها بسهولة، والاقتراب منها قبل الأوان، وقبل نضج الظروف قد يكون مكلفاً في بعض الأحيان!!.

نقول ذلك من باب الثقة المطلقة، واليقين التام بأن الناس في أي موقع كانوا، عندما تجتاحهم أجواء القلق والخوف، كما هو الحال الراهن مع "جائحة كورونا" يتطلعون بشغف إلى معرفة حقيقة ما يحصل عند التعامل مع هذا الوباء الغامض، وحقيقة مساراته، والشكل النهائي الذي سيتموضع عنده، وحجم الأثار التي يمكن أن يتركها وراءه على مصيرهم؟؟ خاصة وقد تأكد الآن أن ذيول هذا الفيروس قد دقت أبواب كل البيوت بصورة وبأخرى، وأن العوائل القاطنة فيها قد أعادت صياغة شكل حياتها وسلوكياتها اليومية، نزولاً عند ما تفرضه أو تتطلبه المواجهة مع هذا العدو الشرس، بعدما وجدت نفسها أسيرة ومحكومة بعقدة الخوف والقلق من الحاضر والمستقبل؟؟.

باختصار فإن الناس في مثل هذه الأجواء تبحث عن وهج الحقيقة الذي يضيء لهم مكامن العتمة التي فرضها الفيروس فجأة دون أية مقدمات.

ومن المؤسف القول: أن الاعلام بمختلف وسائله قد أصبح مسؤولاً وإلى حد كبير عن هذا القلق والرعب الذي يجتاح الناس من خلال ما يبثه من أخبار هو من يتحكم في طريقة صياغتها وتوقيت نشرها، واختيار عناوينها، والتي غالباً ما تكون متضاربة ومتناقضة، الأمر الذي يضاعف من حيرة وإحباط الناس بشكل عام، دون أن نغفل أو نتجاهل -بشكل خاص- ما تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي من دور سلبي، وما تتسم به من فوضى إعلامية عبر ما تتداوله من إشاعات ومعلومات مغلوطة ناهيك عن تشويه الحقائق والتلاعب بها لصالح بعض الإثارات والثرثرات التي لا طائل من وراءها؟؟.

ولكن من المؤكد أنه من وسط هذا الركام الاعلامي وما يحدثه من إرباك، تبرز في المقابل بعض التساؤلات المشروعة والرؤى الموضوعية ذات الأبعاد الصحية والاقتصادية واحتدام بعض النقاشات العلمية والسياسية، تطل برأسها من وراء جدران العزل، ومن بين مسافات التباعد الاجتماعي، عيونها على المستقبل وهدفها في الحاضر ما يطمئن النفس والقلب وإزالة الكثير من الغموض الذي يكتنف هذا الوباء وطريقة انتشار العدوى، وهي للأسف جوانب مجهولة وغائبة عن إدراك أكثر المستهلكين لوسائل الاعلام؟؟.

ما نعرفه ونلمسه هو هذا التفاوت الواضح بين الدول من طريقة التصدي ومكافحة فيروس كورونا (كوفيد 19)، فكل دولة من دول العالم لجأت إلى أسلوب مغاير يناسب ظروفها، واعتمدت "برتوكولاً" خاصاً بها في علاج المصابين، وفي تحديد الإجراءات والوصفات الوقائية، وقد رأينا كيف تعددت هذه التدابير بين عزل أو حجر صحي قسري شامل، وآخر اختياري، وبين إقفال كامل أو جزئي للأنشطة التجارية والاقتصادية، وكذا الحال بالنسبة إلى قرار منع التجوال ودرجة تقييد حركة المواطنين في الشوارع، حتى تظن أن العالم يواجه "فيروسات" مختلفة وليس فيروس واحد؟؟.

واليوم بعد ما يقارب الستة شهور على بدأ انطلاق شرارة الوباء من "ووهان" الصينية، تعود أكثر الدول إلى تخفيف أو رفع القيود عن بعض الأنشطة وتعديل إجراءاتها في التعاطي مع المسار الراهن للفيروس، على الرغم من أن الصورة الكلية لا تزال تبدو قائمة من حيث ارتفاع الإصابات وتزايد أعداد الوفيات في معظم الدول بما فيها تلك الدول التي أعلنت عن سيطرتها الكاملة على الوباء، ثم عادت لتواجه موجة ثانية من انتشار العدوى؟؟ ورغم أن هناك في المقابل ارتفاع ملحوظ في أعداد المتعافين إلا أن هذا الأمر لم يوقف التساؤلات ولم يقلل من هواجس الناس، ولعل أساس أو مبعث هذا القلق له علاقة بمدى الشفافية التي تتمتع بها الجهات المسؤولة في إدارتها للأزمة ودرجة صدقية تعاملها مع المواطنين من حيث تزويدها بالمعلومات الحقيقية والضرورية وكذلك صوابية القرارات والتشريعات المعتمدة في مواجهة الفيروس في كل مرحلة من مراحل تطوره؟؟.

إضافة إلى التساؤلات حول من هي الجهة المعنية برسم استراتيجية هذه المواجهة وتحديد التوجه أو الاتجاه الحاسم فيها؟؟ بمعنى هل إدارة أزمة هذا الوباء وكل القرارات ذات العلاقة تتم وفق منطق وفلسفة الطب والمعايير الصحية أم أنها تخضع لمنطق السياسية وهموم الاقتصاد؟؟ وإن كان المشهد العام يقول أن أغلب الدول قد زاوجت بين العنصرين، بإستثناء قلة قليلة قد احتكمت إلى استراتيجية وتدابير سلطوية يحكمها منطق سياسي ليس له علاقة بالقضايا الإنسانية والأخلاقية وحقوق الناس، وهو منطق غير مسؤول يخضع لمنظومة رأسمالية متوحشة، وقد دفعت هذه الدول للأسف أثمان باهظة من الإصابات والوفيات قبل أن تتولد لها قناعة بخطأ استراتيجيتها.

ولا يخفى على أي مراقب أن من بين أهم الأسباب التي عجلت بقرار الكثير من الدول برفع بعض إجراءات العزل وتخفيف القيود وإعادة فتح الحدود، هي الرغبة في تحريك عجلة الاقتصاد بعد التراجع الحاد والشلل التام الذي أصاب اقتصاديات هذه الدول مما أدى إلى معاناة مؤلمة لمختلف القطاعات الاقتصادية وتعرضها إلى ضغوط مالية قاسية هددت وجودها، بل أن بعضها قد شارف على الإفلاس الحقيقي، خاصة المؤسسات والشركات الصغيرة والمتوسطة التي باتت بحاجة إلى إسعافات عاجلة لتفادي الانهيار الكامل؟؟  كما ليس خافياً حجم ما ضخته الحكومات من مليارات لتنفيذ خططها وسياساتها لمواجهة الوباء، وقد شملت كل القطاعات تقريباً في محاولة للتقليل من الأضرار التي تعرضت لها

وبقدر تعلق الأمر بمسار الوضع عندنا في البحرين في التعامل مع هذا الوباء، فالجميع يدرك تماماً كيف تعاملت الجهات الحكومية ممثلة في اللجنة التنسيقية لمكافحة الفيروس برئاسة سمو ولي العهد منذ بدايات ظهور هذا المرض، وكيف اتخذت الخطوات السريعة والمدروسة، ووضعت الخطط والبرامج، وأعلنت عن بعض الإجراءات الاحترازية التي ساهمت بدون شك في تفادي الكثير من المتاعب التي واجهتها الدول الأخرى في المنطقة؟؟ وكان دور الفريق الوطني الطبي الذي أسندت إليه مهمة تنفيذ خطط الحكومة وتدابيرها المختلفة بارزاً وحاسماً، نظراً للشفافية والمصداقية العاليتين اللتين طبعتا عمل وتحرك الفريق في كل مرحلة من مراحل المواجهة والتصدي للفيروس.

لكل هذه الأسباب فإن أي نظرة مستقبلية تحاول استشراف قدرة الفريق على النجاح وأهمية الخطط والتدابير الوقائية التي يعتمدها، لابد أن تنطلق من الثقة المطلقة في كل ما يتخذه من قرارات وخطوات معيارها وهدفها صحة المواطنين المقيمين بالدرجة الأساسية قبل أي شيء آخر؟؟ وهي ذات الثقة التي تجعلنا نتطلع إلى تعاظم قدرات هذا الفريق الوطني ومواصلة المسار الناجح بشكل تصاعدي حتى بلوغ العتبة النهائية في سلم المواجهة مع هذا الفيروس، فهذا الفريق الوطني هو في الواقع من يتولى قيادة عملية الإنقاذ والنهوض من الأزمة الراهنة، في لحظة انعطافية من تاريخ بلدنا لذلك لا يجب أن يغيب عن بالنا صعوبات ومعاناة الحاضر ولا يجب أن نتجاهل مجمل التدابير الاحترازية المطبقة، مما يجعل ثقتنا بالمستقبل ونظرتنا التفاؤلية في القدرة على احتواء الفيروس والسيطرة عليه تنطلق من قاعدة ومرتكز هام. وهو الأداء المتميز والحيوي لفريق العمل الوطني.

ومع انتظارنا لهذه اللحظة ستبقى العيون شاخصة أيضاً نحو يوم التوصل عالمياً إلى اللقاح المضاد لفيروس "كورونا كوفيد 19" بعد نجاح كل التجارب السريرية لهذا اللقاح الذي بدأت منذ أشهر في عدة دول.

عند ذلك يمكن فتح الأبواب مشرعة أمام الناس للخروج من الوضع الصعب والمقلق الذي هم فيه، إلى وضع أفضل وأرحب يتطلعون إليه؟؟.

وإلى أن يحين ذلك الوقت ويقول لنا الفريق الوطني بأننا قد قاربنا مرحلة الاحتواء والسيطرة، وإننا قد وصلنا إلى حدود ما يقارب الصفر في عدد الإصابات والوفيات، ودخلنا مرحلة متقدمة على طريق هزيمة الوباء، حتى ذلك الوقت فإننا سوف نبقى نواجه تحديات لا يستهان بها تضعنا مباشرة أمام مسؤوليتنا، وأمام امتحان التعايش المؤقت مع الظروف القائمة الأمر الذي يستدعي منا جميعاً إبقاء واستمرار وعينا بخطورة هذا الفيروس لتحصين وطننا ومجتمعنا من أية هزات صحية أو تداعيات اقتصادية واجتماعية صعبة لا قدر الله.

فالتحدي الأهم الذي يواجهنا في هذه الفترة هو كيفية تحقيق التوازن بين الجوانب الصحية والجوانب الاقتصادية، لذلك اعتمدت الدولة اليوم خيار تخفيف بعض القيود والسماح بعودة بعض الأنشطة التجارية بالتوازي مع استمرار الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية للحد من أنتشار العدوى في المجتمع، وهذا يعتمد بصورة أساسية على سلوكيات وتصرفات الناس والمجتمع عموماً التي يجب أن تكون واعية وطوعية حتى لا يضطر الفريق الوطني إعادة النظر في بعض قراراته، فما ننتظره من حصاد في المستقبل سوف يتوقف على ما نزرعه اليوم، فقد ثبت أن عنصر التباعد الاجتماعي هو أحد أهم العناصر لمكافحة الفيروس ومنع انتشاره، إضافة إلى ما تم الإعلان عنه مراراً وتكراراً من إجراءات وقائية أخرى من قبيل تجنب الازدحام والتجمعات وارتداء أقنعة الوجه وغسل اليدين بالماء والصابون، والحرص على نظافة الأماكن وتعقيمها بصورة دائمة، في مقابل هذا الالتزام الضروري من قِبل المجتمع، فإنه بحاجة إلى ما يبعث الثقة والاطمئنان في نفسه والتجاوب مع هواجسه حول قدرات نظامنا الصحي خاصةً بعد الارتفاع الحاد في عدد الاصابات والوفيات ومواجهته أي متاعب أو بلوغه طاقته القصوى، وما لعلاقة هذا الأمر بقرار اللجنة التنسيقية حول العزل الصحي الاختياري للحالات القائمة التي لا تظهر عليها الأعراض؟؟ و برفع الطاقة الاستيعابية لمراكز العزل والعلاج للمرة الثالثة؟؟.

وأخيراً مدى استمرار قدرة الطاقم الطبي على إجراء الفحوصات اليومية بشكل متصاعد وتعقب الحالات المشتبه بها، وهل لكل ذلك صلة ببلوغ الوباء ذروة انتشاره التي يعقبها مرحلة النزول والتراجع؟.

إن الاطمئنان إلى كل هذه الجوانب أمراً في غاية الأهمية، وكما أشرنا في مستهل هذا المقال بأن معرفة الحقيقة توصلنا حتماً إلى الاستقرار وتهدئة النفس وتدفع الناس إلى التفاعل الإيجابي مع كل قرارات الدولة طوعاً وليس كرهاً، وشعوراً بالمسؤولية تجاه الوطن.

هذه هي المعادلة الصحيحة التي تجعل فرص نجاحنا كبيرة في مكافحة الفيروس وهي التي تجعل نظرتنا للمستقبل أكثر تفاؤلاً بقرب إعلان موعد الانتصار النهائي على هذا الوباء بإذن الله تعالى مهما كانت الصعوبات والتحديات.