العدد 5582
الجمعة 26 يناير 2024
banner
تشويش
الجمعة 26 يناير 2024

كل شخص حر في تكوين ذوقه، لكن هناك ما يشوش على هذة الحرية، فللأسف لم تنج القراءة من أمراض السوشال ميديا المعروفة، هناك حركات جماعية كأسراب البطريق بوجهة نظر معينة تتربص وتتنمر على من يخالفها. شاهدت كثيرين يعتذرون قبل أن يبدي أحدهم إعجابه بعمل اتفق السرب على رفضه، وشاهدت كثيرين يقدمون اعتذارا مطولا فيه احترام للبطاريق، ويبدي من خلاله ما يشبه الخجل قبل أن يعبر عن ضعف عمل اتفقوا على حلاوته.
هناك عدوانية ما حلت على أوساط المهتمين بالقراءة عبر السوشال ميديا، بل إن هناك شريحة من القراء حاليا أكثر غرورا من الكتاب. وهناك شريحة لا تقرأ لتستمتع وتتأمل وتدقق، لكنها تقرأ بـ "لهوجة" من يسعى سريعا لإبداء رأيه وتعليقه حتى يحجز لما يقوله مبكرا مكانا مميزا وسط هذا الضجيج. تظهر كثيرا على السطح معارك النقد على النقد، معارك محملة بتكتلات الصداقة والمجاملة والاستقطاب، هناك مهاترات منتشرة تقوم على قراءة الكاتب لا المكتوب، وأساليب قياس ومقارنة ما أنزل الله بها من سلطان. تفاصيل من هذه النوعية تنشر الفيروس وتشوش على البعض بالذات المبتدئين في عالم الكتب، وتخلق تنافسية شرسة في منطقة القراءة وهي منطقة لا مجال فيها للمنافسة أصلا. المزعج أن هناك كتابا متحققين بالفعل وأصحاب مشروع أصبحوا مشغولين بتتبع آثار هذه النماذج في محاولة لكسب ودهم والاستفادة من الضجيج الذي يصنعونه. لكن هناك أيضا القارئ الناقد الذي يحفظ لكل شيء حقه وكرامته. ومثلما كان الشائع من قبل أن يكون لكل شخص كاتب مفضل.. أصبح الآن لكل كاتب قارئ مفضل. هناك من ينتظر الكاتب بشغف كبير تعليقهم على كل سطر يتعلم من وجهة نظرهم ويتطور بملاحظاتهم ولا يعرف وسيلة لمواصلة العمل إلا بدعمهم، وأهل الكتابة يعرفون جميعا أن "الشغلانة" في عرض القارئ الموهوب.
القراءة موهبة مثل الكتابة بالضبط، ومثلما يوجد كاتب رديء يوجد قارئ رديء، 
القارئ الموهوب عيبه الوحيد أن (صوته واطي) بينما الضجيج كله تصنعه البراميل الفارغة حسب القاعدة القديمة الشهيرة.
القارئ الذي يجب أن ينحني له الكتاب احتراما هو صاحب الذائقة النقدية التي لا تخلو في حد ذاتها من إبداع، القارئ المشغول بالفن والأسئلة واكتشاف ما خبأه الكاتب، القارئ الذي يكشف بدقة للكاتب نفسه ما لم يكن يعرفه عن نفسه.
هذا القارئ الكنز لا معنى للكتابة بدونه.. وهو النوع الذي يخاف الواحد على مستقبل القراءة بدونه.

كاتب مصري

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .