مجرد دردشة تلك التي جمعتني بمجلس الزميل محمد حسن العرادي ليلة الثلاثاء الماضي، أما فحواها، وأما مغزاها، وأما المشاركون فيها، فكانوا على قلب رجل واحد، يناقشون وينفعلون ويتألمون لشعبنا المُحاصَر في غزة. لم يكن سرادق عزاء لشهدائنا في القطاع، ولم نقبل العزاء في قتلانا وجرحانا حيث إن للموت بقية، مجرد نَكْأٍ للجراح، ووصف للمتاح، وتوغل في المُتغول علينا، وانتقاد لما نحن فيه وما كان في يدينا، هي حالة رثاء ليس إلا، وجمع غفير لا يقبل إلا بالكرامة، ولا يتنازل عن شبر واحد من أرض الوطن.
الإعلام العربي في نظري، حيث كنت المحاضر الأساسي في "الدردشة"، ظل مقصرًا ومازال، ظل متنحيًا ومازال، ثم ظل مشغولاً بهمومه وطموحات ذويه، مبهورًا بما يحققه من انتصارات على طريقة "بهلوان الحفل"، أو خيال مآتة الريف البعيد، هكذا اتفق الجميع على أن الإعلام اليوم لم يواكب، وصحافة الحدث مازالت دون مستوى الحدث. من جانبي، لم أعترض رغم أنني كنت متهمًا، ورغم أنني لم أستطع التمسك بحقي في الدفاع الشرعي عن النفس. إعلامنا تأخر عن الإعلام الإسرائيلي بسنوات ضوئية، انتصروا علينا في إقناع المجتمع المسمى بالدولي بأن كل اعتداء على المدنيين هو بالضرورة إرهاب، وأن ما يفعله المستوطنون اليهود في الأراضي الفلسطينية المحتلة من اغتصاب للأراضي وتهجير قسري لسكان الوطن الأصليين، وقتل للأطفال والنساء والمسنين، هو عمل مشروع وليس إرهابًا.
الفرق الجوهري وسياسة المعايير المزدوجة التي تكيل بمكيالين بين إدانة "الهولوكوست"، وما فعله "النازي" باليهود في المحرقة الشهيرة، وعدم إدانة الصهاينة اليوم، نظير ما يفعلوه بأهلنا في قطاع غزة، هو الجريمة النكراء التي تُرتَكب بحق الإنسانية جمعاء.. معايير أكثر من مزدوجة، وأقبح من أن توصف، وأكثر ظلمًا مما يظن بعض المتشدقين بأرجوحة المجتمع الدولي.
"الدردشة" بالمجلس المعتبر وصفت إعلامنا العربي بالبعيد جدًا عن السيطرة على الذهنية الدولية، عن الوصول إليها مبكرًا قبل أن يصل إليها الإعلام الإسرائيلي الأكثر احترافًا، والأكثر تواجدًا وتوغلاً في العقلية الغربية من الإعلام العربي المنغلق على نفسه.
تحدثنا عن الهوة الحضارية مع إسرائيل، وعن الفجوة العلمية السحيقة التي أبعدتنا عن كيفية إدارة الصراع بمفهوم معرفي حديث، سقطنا في فجوة البحث العلمي الذي لا ننفق عليه أقل من ربع ما تنفق عليه إسرائيل، وقلنا إن لدينا علماء في كل مكان وهذا يكفي.
أنفقت إسرائيل نحو 4 % من الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادها على البحث العلمي، ونحن لم ننفق إلا الفتات من موازناتنا المتضخمة التي تذهب تفاصيلها إلى البذخ والإنفاق غير الضروري في كثير من الأحيان، الفجوة العلمية هي التي أدت إلى هذا الدمار الهائل الذي أحدثته إسرائيل في القطاع الفلسطيني.
تحدثنا كثيرًا عن الاحترافية والمهنية التي يفتقدها الإعلام العربي حاليًا رغم "السوشال ميديا"، وتحدثنا أكثر عن البناء فوق الأخبار الصحيحة وليست المفبركة، وعن الإعلام القانوني وليس المارق عبر الأثير، لكننا اتفقنا أن هناك من يضحي بحياته - "72 صحافيًا شهيدًا في غزة" - منذ طوفان الأقصى حتى اللحظة، وعشرات الشهداء الذين سقطوا وهو يؤدون رسالتهم المقدسة في مواقع الأحداث غير مكترثين بما كان يمكن أن يحدث لهم في سبيل أن يصلوا بالحدث العظيم إلى العالم بأسره. طوبى لصحافيينا العرب الذين ضحوا، وهؤلاء الذين كافحوا من أجل أن يَصِلوا بالمعلومة الصحيحة إلى كل الدنيا، في حين يتقاعس سواهم عن رسالته، ويلهثون خلف "الترند" والمكاسب السريعة المؤقتة، وطوبى للذين ضحوا من أجلك يا وطن.
كاتب بحريني ومستشار للجامعة الأهلية