حينما نقرأ نصًّا فإننا لا يمكن أن نقرأه دون تحيز أو دون افتراضات مسبقة، لأننا نحمل داخلنا- إضافة إليه- معارفنا السابقة وخبراتنا وذكرياتنا متفاعلة مع نصوص أخرى مشابهة له وغير مشابهة. تمتزج هذه الأمور معًا أثناء عملية القراءة لتخرج فهمًا خاصًّا للنص يختلف بالضرورة عن فهم الآخرين له، وهذا هو سر القول الشهير إنه لا يمكن قراءة نفس الكتاب مرتين حتى من نفس الشخص.
قد يكون هذا الكلام غريبًا على البعض لكونه يَعُدّ النص واحدًا فكيف يمكن فهمه بشكل مختلف من شخص لآخر؟ والأصعب منه كيف يمكن أن تعد كل قراءة له حتى من نفس الشخص قراءة مختلفة؟
الحقيقة أن القراءة عملية ديناميكية معقدة، تتداخل فيها عدة عوامل كما ذكرنا، وهذه العوامل متغيرة باستمرار ولا يمكن أن تثبت عند مستوى واحد؛ من جراء تغير وتنامي كل عامل بحد ذاته، وتأثر كل عامل بالآخر وبالظروف المحيطة به وحتى بمشاعر القارئ ومزاجه الشخصي وقت القراءة. هذه الأمور التي ذكرنا هي ما يسهم على الدوام في إثراء التجربة القرائية، وهي سر ما يتحدث عنه البعض من رغبة في تكرار قراءة كتاب ما واكتشافه لأمور لم يكتشفها في قراءة أو قراءات سابقة.
وقد تحدث الفيلسوف الألماني هانز جورج جادامير (1900-2002) عن جوانب من هذا الأمر في نظرية التأويل التي قال فيها إن فهم النص لا يحدث بمعزل عن السياق التاريخي والثقافي والشخصي للقارئ. وقال جادامير، في كتابه (الحقيقة والمنهج)، إنه لا يمكن أن تكون قراءة أي شخص موضوعية بالكامل؛ ذلك أنها عملية حوارية بين القارئ والكاتب، وتتداخل مع السياقات التاريخية والشخصية للقارئ؛ لكونه يمتلك افتراضات خاصة به وأفقًا خاصًّا به، كل هذه تختلف عما لدى الآخرين من افتراضات وآفاق.
وتتقاطع هذه النظرية مع ما قاله الفيلسوف والناقد الروسي ميخائيل باختين (1895-1975م) بأن كل نص يحمل صدى نصوص أخرى، وأننا حين نقرأ فإننا لا نفعل ذلك من فراغ بل نحمل معنا حقيبة معرفية تؤثر على تفسيرنا لما نقرأ. كما أن لها مشتركات لا تخفى مع نظرية موت المؤلف للمفكر الفرنسي رولان بارت التي تقول بأن قراءة النص تنحصر في النص نفسه بعد كتابته ولا علاقة للمؤلف به، حيث يصبح للنص بعدها كيان مستقل.
ولا يجد أصحاب هذه النظريات أي عيب في النصوص التي تتعدد الآراء والتفسيرات حولها وقد تتناقض وتتصادم، بل يعدونها نوعًا من الإثراء وتعزيزًا للإبداع، حتى يمكن أن يصل عددها إلى عدد القراء أنفسهم. وتعظم هذه النظريات من دور القارئ في إنتاج المعنى بغض النظر عن الرأي الفعلي لكاتب النص. حتى مقالي هذا – رغم قصره - لو سألت بعض قرائه فلربما وجدت آراء متعددة في تفسيره حسب خلفية كل قارئ، وحسب السياق التاريخي أو الثقافي أو الشخصي لكلٍّ.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |