مع بدء موسم محرم نشر الدكتور الكاتب نادر كاظم أستاذ الدراسات الثقافية مقطع من محاضرة ألقاها والدي الدكتور عبد الحميد المحادين رحمه الله في عام 2000 بعنوان أوراق من دفتر التعليم، شارحاً فيها بعض المواقف التعليمية المميزة والراسخة في ذهنه. من ضمنها كان يتحدث عن مسابقة أقامتها دائرة المعارف في البحرين عام 1947 لرسم ثلاثة مناظر، ألا وهي موكب من مواكب محرم، الغوص، والعرضة. وفوز الطالب الشيخ سلمان بن محمد بن عبد الله آل خليفة رحمه الله عن رسمه لإحدى مواكب محرم متفوقا على أقرانه بموهبته في الرسم. مشيراً لما حملته هذه المسابقة من درسا بليغا في التعايش ودلالات تميّز المجتمع البحريني. ففي اختيار دائرة المعارف لهذه المعالم والمناسبات أمور راسخة ومكوّنة لتاريخ البحرين ونسيجه بمواكب محرم ومهنة الغوص التي تشتهر بها والرقصة الشعبية العرضة.
ومن ذكريات والدي رحمه الله المنشورة في كتابه "من الكرك إلى المحرق" عند قدومه للبحرين في عام 1960، شاباً يطمح للتأقلم والتعرف على المجتمع البحريني فوجد في عمله في مدرسة الهداية الخليفية آنذاك كل ما يحتاج لتكوين صورة عنه، وبأن "أبرز عناصر أي مجتمع هو العنصر البشري ليجده مكثفاً في هذا الجمع من أبناء مدرسة الهداية الخليفية، بل كل منهم يجيء من بيت وأسرة وعائلة وقبيلة مختلفة.. بثقافات وأمزجة مختلفة ومتداخلة" وكانت بمثابة نموذج مصغر لمجتمع البحرين. ففيها معلمين من مختلف الجنسيات وطلبة من الأسرة الخليفية مع طلبة من كافة مناطق البحرين يتشاركون الاهتمامات مثل لعب كرة القدم والانضمام للأندية والأنشطة البدنية، فلا يختلفون مع بعضهم البعض سوى في حب وتشجيع نادي رياضي على الآخر مع مشادات ودية تنتهي بانتهاء المباراة.
لا أجد ما يمكن أن يصف طبيعة مجتمع مملكة البحرين بصورة أقرب من تلك، بأن تبقى المسابقة لمشاهد مرتبطة بجميع أهالي البحرين وبمشاركة من جميع الخلفيات الدينية سواء ارتبطت بطائفة عن أخرى إلا بأنها بقت مسابقة رسم لا تحيد عن هدف إبراز المواهب والاحتفاء بها. وبأن الخلافات بين التلاميذ لا تحمل أبعاد طائفية أو سياسية. المواقف كثيرة لا تعد ولا تحصى فالسؤال عن مدى التعايش بين الأديان والطوائف والجنسيات سؤال لا يطرح لأنه ببساطة راسخ في جذور الوطن وتجد شواهده في حياتك اليومية.
مفهوم التسامح الديني ليس بشيء مستجد في مملكة البحرين، ولطالما شدّد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم في كل مناسبة على أن المجتمع البحريني نسيج واحد متآلف ومتكاتف. وقد انعكست هذه الرؤية في مبادرات رائدة مثل مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي والذي جاء باكورةً للنوايا الطيبة لترسيخ مجتمع تسوده المحبة والوحدة بين أبنائه. لا غرابة إذًا أن تُصنَّف البحرين اليوم مجتمعًا تعدديًا يتسم بدرجة عالية من التعايش السلمي وتسود بين مكوناته روح التسامح. هذه السمات الأصيلة أصبحت علامة فارقة تميز البحرين في المنطقة والعالم.
تكتسب هذه القيم أهمية خاصة ونحن نعيش هذه الأيام أجواء شهر محرم. لقد عُرفت البحرين تاريخيًا بمشاركة الجميع في هذه اللقاءات وحضور مجالس العزاء حتى في القرى. ولم يكن ذلك أمرًا نادرًا أو مستغربًا، بل جزء من عادات المجتمع. كما حرصت القيادة الرشيدة - ولا تزال - على توفير كل ما يلزم لإنجاح موسم عاشوراء سنويًا؛ فنجد الاستعدادات مسبقاً بين الجهات الحكومية ورؤساء المآتم فأصبح من الثوابت لقاء معالي الفريق أول الشيخ راشد بن عبد الله آل خليفة وزير الداخلية مع رؤساء وممثلي المآتم كعادة سنوية تليها المحافظات من خلال التنسيق بين الجهات الرسمية والمآتم لبحث احتياجاتهم وتنظيم مواكب العزاء معهم والتأكد من توفير كافة الخدمات للخروج بموسم ناجح.
هذه الصورة المشرقة تأتي مؤكدة على أهمية الحريات الدينية في مملكة البحرين وحرص القيادة الرشيدة على ضمان حقوق المواطنين والمقيمين في إقامة شعائرهم وعقائدهم بحرية وأمان بشهادة كل من عاش في البحرين أو زارها، إذ يرى بعينه المساجد للمذهبين جنبًا إلى جنب مع المآتم والكنائس والمعابد، وهذا التآلف الملفت وتجاور دور العبادة حظي بإشادة الزوار والمراقبين الدوليين بأن مملكة البحرين نموذج تاريخي وريادي في تعزيز حقوق الإنسان. هذا النسيج الذي حاكته عقود من التعايش والتسامح لن تتقطع خيوطه أبدًا بإذن الله. إنها رسالة فخر وأمل تبعث بها مملكة البحرين إلى كل العالم.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |