العدد 6109
الأحد 06 يوليو 2025
أميركا وتحولات النظام الدولي بين عهد الأحلاف التقليدية المتكئة وعهد الشراكات الاقتصادية (2)
الأحد 06 يوليو 2025

إن فضاء الأمن القومي الأوروبي الغربي اليوم يعد مكشوفا أمام روسيا وترسانتها من غير حماية الولايات المتحدة. ورغم ذلك، تسعى بريطانيا وألمانيا تحديدًا وبقوة لعدم تفتير جذوة صراع الأزمة الأوكرانية، وذلك لجعلها ورقة ضاغطة على الحسابات الاستراتيجية الأميركية المستجدة، وشلها عن السعي منفردة لقيادة العالم ودون الحاجة للأحلاف العسكرية التقليدية كالناتو. واليوم بات واضحًا أن الصين خطر فعلي على التفرد الأميركي بزمام المشهد الدولي. ونحن شخصيًا كتبنا بعض المقالات قبل عشرين عامًا، يومها كانت الصين في بؤرة تحول سياستها التجارية من النظام الاشتراكي لحركة السوق إلى نظام المنافسة الرأسمالي المفتوح على العالم، مع إبقائها على الجانب السياسي والإداري لمنظومة الحزب الحاكم الواحد، ومع التعديل في بعض جوانبه، وذلك من خلال تدخل الدولة في معادلة صياغة أساليب توجيه وتحسين جودة الإنتاج الخارجي ودعمه ليصمد أمام المنافسة في الأسواق العالمية.
وهنا تكمن العقدة الأميركية لإعادة صياغة سياستها على مستوى الخارج، فالحاجة الملحة الناتجة عن شدة المنافسة للسيطرة على صيرورة النظام العالمي تفرض على الولايات المتحدة إعادة صياغة سياستها التجارية والاقتصادية بأكثر واقعية حول العالم، وهو ما يدفع الإدارة الأميركية للفتور في علاقتها مع الحليف الكلاسيكي الأوروبي الغربي، والتحول نحو إعادة صياغة معادلات التبادل التجاري وتصدير الثورة التكنولوجية وإمكاناتها نحو فرص أكثر تميزًا اقتصاديًا حول العالم. 

وواضح هنا أن التغيير في سياسات الولايات المتحدة نتج بعد تأكدها بأنها الدولة الأقوى عسكريًا وعلميًا على مستوى العالم، لذلك هي تسعى اليوم لتغيير حقبة عهد الأحلاف العسكرية المرهقة بلا مردود إلى عهد الشركات الاقتصادية مع من لديه قوة اقتصادية ونقدية على مستوى العالم. وربما من ذلك ينتج التوجه المستجد لأميركا بالتحول من عهد الأحلاف إلى عقد الشركات الاقتصادية. ومعلوم أن صيغة عقد الأحلاف فارقة عن صيغة عقد الشركات الاقتصادية، فالأولى أكثر كلفة ولا تعود بمقابل يذكر من الأضعف تجاه الأقوى في الحلف. 
إن الاتجاه نحو دول الشرق العربي وإعادة صياغة فرص الإنتاج والتصنيع معها هي حاجة أميركية اليوم قبل أن تكون عربية في هذا المتغير العالمي، فهذا التوجه سيحرك بالطبع عجلة الاقتصاد الأميركي في الداخل، وسيسرع وتيرة الإنتاج وتضاعفه بسبب تواجد الوفرة المالية، كما سيحسن من فرص امتلاك أصول الشركات حول العالم. وفي تقديري أن ما هو راشح الآن أن الولايات المتحدة تسعى تدريجيًا للابتعاد عن دول أوروبا الغربية التي استنزفت واتكأت كثيرًا في تحقيق رفاه شعوبها على الجهد الأميركي وتقدم عجلته البحثية والعلمية في معظم المجالات. وبالنسبة لأوضاع الشرق العربي، فعمليًا الولايات المتحدة تاريخيًا لم تكن هي المتسببة في تأسيس متناقضات الشرق العربي عبر المئة عام الماضية، إنما هي أوروبا القارة العجوز وعلى رأسها بريطانيا، فهي من تفننت في تفكيك الوضع العربي وزراعة متناقضاته الحالية بالضغط والتحايل. إن الخطيئة الكبرى للولايات المتحدة تكمن في قيامها بغزو العراق وإسقاط نظامه الوطني والالتزام بالدعم الحثيث لإسرائيل لفرض إرادتها. وهذا الأمر الآخر واضح اليوم أن نتنياهو وسياسته أوصلت إسرائيل لطريق مسدود، وستؤدي حتمًا إذا ما استمرت لعواقب ترتد على بنيتها الداخلية، كما أنه وفي حال استمرار نتنياهو بنهجه فإن ذلك أيضًا سيعرقل مشروع ترامب نفسه في سعيه العالمي. أما بالنسبة لاحتلال العراق، فإن ترامب رفضه رفضًا قاطعًا في الكثير من تصريحاته، وقد حمل إدارة بوش وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق مسؤولية زراعة الفوضى في الشرق الأوسط، ما أدى لتغير معادلة توازنات القوى في المشهد العالمي وبروز الصين بصمت كمنافس من تحت الركام. واليوم تأتي زيارة الرئيس الأميركي الأقوى عالميًا لمنطقة الشرق العربي ابتداءً بقلب المنطقة العربية ومن رياض نجد العتيدة تحديدًا، وكما عبر ترامب شخصيًا أنه هنا يتحدث من قلب العالم، ويؤكد أن المملكة العربية السعودية هي دولة شريكة اقتصاديًا واستراتيجيًا ولا يمكن للولايات المتحدة أن تستغني عنها لوضع الحلول لمشاكل المنطقة بل والعالم. وطبعًا هو يعلم وصناع السياسة الأميركية يعلمون حاجتهم لكسب الود السعودي والتوافق مع ما تريده الرياض من متطلب لاستمرار الشراكة الاقتصادية السعودية الأميركية وتنميتها في هذه المرحلة العالمية. فالرياض موقفها واضح من إشكالات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهي ترى ضرورة أن تضغط الإدارة الأميركية على إسرائيل للقبول بواقع حل الدولتين بشكل حقيقي وباعتراف دولي، وإلا فإن المملكة العربية السعودية لن تقبل بالانخراط في الاتفاقات الإبراهيمية الأخرى كحل لمشكلة فلسطين. إن المملكة العربية السعودية فارقة عن غيرها من دول المحيط، وذلك إن كان على مستوى التأسيس أو على مستوى طبيعة تكون شخصيتها السياسية الصلبة والواثقة بالتعبير في المواقف والتي تبلورت عبر تاريخ مديد من تخصيب عمق المفهوم ووحدة ودقة المنطوق.
إن ترامب واضح أنه معجب بشخصية الدولة السعودية وبكاريزما رجالها، ولطالما عبر باستمرار بأنهم صادقون بالأقوال ولا يحبون المراوغة. ويبدو أن ترامب نفسه يتسم بشخصية صريحة ومباشرة، ولطالما تذمر من أساليب الإعلام الأميركي الداخلي أثناء الحملات الانتخابية واتهمه بالكذب عليه وتشويه صورته، وذلك كونه شخصية قوية ومباشرة. كما أن الأميركان يرصدون جيدًا أن سياسات المملكة العربية السعودية رصينة وصادقة في تعاطيها مع الملفات الدولية وذلك منذ نشأة المملكة العربية السعودية على يد المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه. وإن ما يحصل اليوم من تغير سياقات النظام الدولي التي تفرض نفسها ضاغطة على دول العالم للتعديل من سياستها، وهو الأمر الذي يسعى لتحقيقه حفيد ذلك الرجل المؤسس العظيم. نعم هذا هو الحفيد المجدد الأمير الواثق الخطى سمو ولي العهد محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، إنه يسعى لأخذ بلاده والمنطقة العربية إلى آفاق عالمية ستتشكل في الفضاء الدولي في العشرين سنة القادمة، وقد وضع على عاتقه ذلك وكما قال: “إنني لن أتخلى عن دوري في السعي لتطوير وازدهار المملكة العربية السعودية والمنطقة وذلك لمتطلبات المستقبل ما دمت على قيد الحياة”؛ أي بما يتناسب مع متطلبات التغييرات العالمية وتفاعلاتها القادمة. حفظك الله أيها الأمير المجدد من كل مكروه، وأدام عليك رداء الصحة والعافية عمرًا مديدًا لتحمل لواء صناعة واقع المنطقة العربية القادم بكل جهد وعزيمة رغم صعوبة إشكالات التغييرات الاجتماعية على مستوى الداخل وعلى مستوى أجيال المنطقة العربية عموما.

وأختم بهذا البيت: انـت يمـحمد شبيه بالمعزي يـاذى الباع الكبيـر / ما نسيت أهـلك بأرض الشام يرافع عوقها.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .