العدد 5523
الثلاثاء 28 نوفمبر 2023
banner
مرة أخيرة.. من أدونيس إلى أدونيس (3)
الثلاثاء 28 نوفمبر 2023

حرصت أثناء توغلي في تشابك الأفكار وتناقضها بين رسالتين، أن أقرأ تفاصيل الوجود والعدم، ما هو محملٌ بالفكر الغربي الفرنسي، وما هو جاثم على الصدور من خلال الحطام الكامل لقطاع غزة. لم تختف مناظر الأمهات الثكلى، ولا الأطفال الحيارى أو القتلى، ولا المسنين الذين فقدوا مستشفياتهم وكراسيهم المتحركة قبل أن يفقدوا أرواحهم.
أثارني ذلك البرود في الخطابين الأدونيسي وشبه الفرنسي، الجميع يتحدث عن ضمير عالمي لم يكن موجودًا قبل الدمار، وعن لفتة إنسانية غابت بفعل المكاييل والاعتبارات المتناقضة عند الغرب، والتفكير العميق من مثقفينا، ذلك الخطاب المحمل بالتوسلات إلى مثقفين يمرون على المذابح وكأنهم يتابعون فيلمًا هوليووديًا "هادفًا"، ويتسمرون أمام الشاشات شأنهم في ذلك شأن أي فرد عادي لا يرى في الأمور سوى أبسطها، وفي المشاهد غير ضجيجها، وفي الدماء سوى لونها. فنانو الغرب ومثقفوهم تعاطفوا مع مثقفينا وشدوا الرحال نحو عناق أفكارهم، والاتفاق النظري مع شطحاتهم وآلامهم، مع سلبيتهم وقدرتهم الفائقة على الصبر. قال لي أحد المفكرين العراقيين وهو البروفيسور كاظم مؤنس "مسرحي وأديب وأستاذ جامعي مخضرم"، ما يحدث في غزة، منعني من الكتابة عن غزة، حرمني من متعة الإبداع ورصد الدمار، من خلال عمل فني قادر على تصوير مأساة شعب يعيش بيننا ولا يعيش، منعتني الصدمة من تفريغ شحنة العذاب التي امتلأت بها مخيلتي وتجرأت من خلالها جملتي العاجزة. قال البروفيسور العراقي الكثير عما كان يود أن يكتبه في تلك اللحظة، ولكن ذلك لم يكن.
عندما عدت إلى خطاب أدونيس الذي وجهه لمثقفي الغرب ومعه 99 مثقفا عربيا اكتشفت أنني أمام خطاب رسمي توسلي، خطاب عاجز عن الشكر لمن لا يستحقون الشكر، خطاب موغل في تجنب نقاط الاختلاف الجوهرية بالتحديد حول أصل الكيان الصهيوني، من زرعه، ومن سكت عليه، من قدم التغطية الدينية والثقافية والفكرية له، ومن اعترض على هذه المساندة التاريخية التي زُيفت ولم تُؤرخ، وغالطت ولم توضح، واعتدت ولم تعدل؟
اكتشفت أن الرسالتين قد تعاملتا مع الموقف الذبيح على أنه ماض معتل لآخر المدى، ومع الحاضر الفادح على أنه حدث على أعتاب النسيان.
حاولت من جانبي أن أكتب شعرًا وفشلت، تخيلت الجثامين التي تمشي أمامي، ولم أتخيل المقاومة وهي تقدم أروع الأمثلة في الإقدام والاستشهاد والدفاع الرجولي عن الوطن.
وأفزعني ذلك المسؤول العربي الضعيف وهو يلقي بالكرة في ملعب "المجتمع الدولي" الذي يجب أن يتحمل مسؤولياته. وتابعت كيف يحاول البعض التربح من دماء أهلنا في غزة بعمل البرامج التي تحقق "الترند"، وآخرها زيارة أحدهم للبحرين حيث الإقبال منقطع النظير.
واكتشفت أن القضية أكبر من رسالتين، وأشرس من معارك على تراب وطن، وأنها شئنا أم أبينا، تخصنا نحن، فلسنا على قدر "أهل العزم" حتى "تأتي العزائم"، ولسنا مثلما قال شعراؤنا الأشاوس وهم يتباكون على حبيب ضائع عندما انبرى أحدهم "قفا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل"، ولم يتجرأ أي منا ليقف في عبارات مشهودة على مقبرة جماعية "غزاوية" وهو يقول: "هذه الكعبة كنا طائفيها والمصلين صباحًا ومساءً".
اكتفينا بالعجز عن الكلام، والضعف عند الكتابة، والتنازل عندما يرتبط الأمر بـ"ترند" جمع الغلال والغنائم، مكتفين بالتصفيق الهستيري من أجل لقطة لا تُنسى، وبالضحك الذي كان كالبكاء عندما نمر على مشاهد الموت مكتفين بأرجواز على شاشة، وبهلوان على أخرى، وكان الله في عونك يا فلسطين.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .