العدد 6122
السبت 19 يوليو 2025
الانتظار فصل وجودي أم حبكة رواية؟
الخميس 03 يوليو 2025

مدخل: 
الانتظار تلك السيكولوجية التي يتبناها الإنسان عندما يكون مقيد الأيدي، يقول ليو تولستوي: "كل
شيء سيتحقق في أوانه. لمن يعرف كيف ينتظر "إذاً يبدو أن الانتظار فن لا يتقنه الكثير، ولكن هل فعلاً
 الانتظار يحقق للمرء ما يريده أم أنه يعتبر استجابة تكيفية لحالة الإنسان العجزية؟.

تأطير المفهوم:
 ينظر إلى الانتظار على أنه حالة حركية ساكنة، ازدواجية متنافرة تمثل الكون، مثل النار والماء، الأرض والسماء، الجنة والجحيم، قد يكون أقرب صورة ذهنية وصفية له هو امرأة جالسة دون حراك في محطة قطارات، لكن عقلها يجري في حلقات الزمن، تنتظر قدوم دخان القطار حتى تغادر.
 الانتظار ليس كلمة بل جملة فعلية، تبدأ بفعل مبني للحياة، إنه العملية التي يمارسها كل من على ظهر هذا الكوكب، من عنكبوت عالقٍ في بداية خيوط بيته يصبر حتى تشل فريسته، أو الضفادع التي تترقب المطر لتضع بيضها، أو من حقل دوار الشمس الذي ينتظر إشارات الضوء لتنحني سيقانه نحو الشمس،  ولكن الكائن الوحيد الذي يستوعب سعتها، ويستطيع أن يفهم هذه العملية كما يفهم النحاتين الصلصال الذي في أيديهم؛ هو الإنسان.

الأبعاد المختلفة:
طالما أن الانتظار يشغل حيزًا جغرافيًا من الحقيقة البشرية، فقد تم معالجته في إنتاجاتهم، لندلف إلى مسرحية الأيرلندي "صامويل بيكت" حين كتب رائعته الوجودية "في انتظار غودو"،  لم يحتل الانتظار جزء من العنوان فقط إنما كان عامود حبكة المسرح، حيث وظفها لتصبح الحكاية عن شخصين معدمين مشردين، يقفان على قارعة الطريق ينتظران شخصًا اسمه "غودو"، بجانب شجرة جرداء تحمل خمس أوراق على أغصانها لتمثل الألم الناتج عن مرارة انتظار المجهول، هذا الانتظار يخرج الشجرة من الديكور لتصبح رمزية ، بل إن "غودو" نفسه كان استعارة تصريحية للعذاب، لأنهما كان ينتظران بلا هوادة أما للفناء أو للحياة.
 هل يصنع الانتظار قصة حب:
 أعتقد كما عهدنا في أغلب قصص الهوى أن يأخذ الانتظار حيز منها سواء كان يلعب دور رئيسي أو ثانوي أو حتى يكون هو الحبكة للقصة ،ففي الرواية التي كتبها

عبد الرحمن منيف «قصة حب مجوسية» التي تصرخ بموضوعات منها الحب والأمل والانتظار "والتي تحكي
قصة رجل يقع في حب امرأة متزوجة فيصير سجين الانتظار والحب" كان الكاتب يلعب على حبال الانتظار
لدرجة تجعل القارئ يعيش في ردهات هذا الترقب، مستشعرًا ثقل هذه المشاعر التي تعيشها الشخصية، هكذا ليصبح محركًا للسرد وصمغًا يلصق الأحداث ببعضها، هنا يمكننا الجزم أن الانتظار يصبح جزء من تقنيات القص، ويأتي في ماء الرواة، يختلط بمفهوم الذائب والمذيب الكيميائي، فتارة يكون الوسط الذي تذوب فيه القصة وتارة يكون المذاب الذي يتحلل في كوب الحبكة.
والإنتاج العالمي يحمل نفس الفكر، حتى الكوليرا جرثومة الأمعاء، في زمن حبها، يستعين بها غابرييل ماركيز  ليخلق عبر الانتظار فسحة لقصة الحب التي يعجنها الزمن، وتشهد عليها الساعات والدقائق، ليكون هو نجم القصة في فضاء المعضلة القصصية.

سيمياء السرد:
ويصنف الانتظار على إنه منهجٌ أساسي لبناء التوتر والتصاعد في النصوص، ليقدم بذلك خدمة لوجستية للأدب، حيث يشبك عناصر نفسية تكون طود العقبة والمشكلة، وترتقي بتجربة القارئ لتجعله يعلق مع المنتج الأدبي حتى ينهيه، بذلك ينتج الكاتب خطاف يصطاد به اهتمام الجمهور حتى آخر لحظة.
لأنه يزرع مناخ خصب، حيث يتورط القارئ داخل الصراع، يعيش مشاعر القلق والترقب، يتبنى الانتظار دستورًا ليعرف ماذا سوف يحل بالحدث، لكنه يجدر بنا الإشارة إلى أن هذا يتطلب فنية عالية لتحويل الانتظار لعنصر تشويق، وإلا كان وابلًا على الكاتب، وقد يحول التجربة القرائية إلى رهاب أدبي، ويبصم جبين الكاتب بمفهوم "الملل".
هكذا يلعب الانتظار دوره في الإنتاجات الأدبية، من مسامير خشب المسرح، إلى صفحات النثر، القصة القصيرة والرواية، يشكل المؤامرة، ويكون مولد للحدث، وأحيانًا يأتي ثانويًا مثل لوحة معلقة على جدار السرد كبير.

الختام:
إن الانتظار يحمل لنا معانٍ دَسمة لا يسهل على العقل ولا القلب هضمها، خصوصًا أنه كلمة مطاطية تختلف من فرد لفرد فهي تبدأ من أبسط الأمور مثل انتظار في عيادة الطبيب، وصولًا لانتظار المصير، وما هو وراء الحياة فيصبح بذلك الانتظار عملية وجودية عبثية مؤلمة.
الخلاصة إنه سواء كان وجوديًا في الواقع أو افتراضيًا في رواية أدبية ما لابد أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوجع الإنساني، هل نستطيع أن نقول بأنه أشبه بصخرة سيزيف فهو أمر لابد منه، ولكن قد يفنى بنا العمر ونحن ننتظر شيئًا ما أو شخصاً ما.
 

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .