عند كتابة هذه الأسطر مضت 4 أيام منذ أن قامت روسيا بمهاجمة أوكرانيا برًّا وبحرًّا وجوًّا، وتمكنت قواتها المسلحة في وقت قياسي من التوغل في عمق الأراضي الأوكرانية حتى وصلت إلى مشارف العاصمة كييف.
وبمتابعة ردود فعل وأصداء هذا الحدث الخطير في عالمنا العربي من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي نجد في هذه المرحلة المبكرة أن شعورًا بالفرحة قد ملأ قلوب الكثيرين الذين بدأوا بالاحتفال بانتصار الروس على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، ليس حبًّا أو تعاطفًا مع روسيا أو أوكرانيا، وإنما نكاية وشماتة بالولايات المتحدة وحلفائها لمواقفهم المناهضة لقضايا العرب المصيرية.
ومن تطورات وتتابع الأحداث خلال الأشهر القليلة الماضية يبدو أن الولايات المتحدة قد ورطت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجرّته إلى اتخاذ قرار غزو أوكرانيا، وإنها بدورها لن تبادر أو تنجرَّ إلى القيام بأي خطوة قد تؤدي إلى صِدام عسكري مباشر ونشوب حرب عالمية ثالثة، وسيكتفي وحلفاؤها بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية القاسية الخانقة ضد روسيا، وتحويل أوكرانيا إلى مستنقع أو أفغانستان جديدة لروسيا يتم فيها إنهاكها واستنزاف قدراتها وطاقاتها.
ومن الواضح أن بوتين قد تسرع في اتخاذ هذا القرار، وإنه لن يتمكن من تحقيق أهدافه باستخدام القوة والعضلات، ولن يستطيع إخضاع أوكرانيا أو السيطرة عليها أو الاحتفاظ بها إلى جانبه مستقبلًا، ولن يتمكن من تحقيق أي نصر في هذه المغامرة أو المواجهة غير المتكافئة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكذلك باقي دول العالم التي اعترضت على الأسلوب العسكري الذي اختاره بوتين لحل هذه الأزمة، فقد صوتت 11 دولة في مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي لصالح تبني قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وامتنعت ثلاث دول فقط عن التصويت، وفي اليوم نفسه أصدرت 50 دولة بيانًا مشتركًا شجبت فيه استخدام روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن منعت بموجبه صدور قرار دولي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا.
إن تاريخ الصراعات المماثلة ومنظومة العلاقات الدولية لا تسمح بقيام أية دولة باجتياح أو غزو أراضي دولة أخرى في هذا العصر، ولا يمكن قبول أي مبررات لذلك مهما كانت راجحة ومقنعة، كما لا يمكن أن يؤدي مثل هذا الغزو إلى الانتصار في النهاية أو إلى تحقيق الأهداف المرسومة والمتوخاة؛ بل إنها في الغالب تؤدي إلى نتائج عكسية كارثية وخيمة.
بوتين بنى حججه وتبريراته لغزو أوكرانيا على أسس تاريخية واستراتيجية وكان يسعى إلى استعادة مجد روسيا ومكانتها السابقة؛ وهي ذات الحجج والتبريرات التي ساقها أدولف هتلر عندما غزا بولندا في العام 1939؛ ساعيا هو الآخر إلى “استعادة الحدود الشرعيّة لألمانيا التاريخية”.
لقد استهتر هتلر وقتها بالنظام العالمي، وتمكن وهو في أوج قوته وغطرسته من اجتياح الأراضي البولندية في وقت قياسي أيضًا، إلا أن هذا الاجتياح كان الشرارة التي أشعلت نيران الحرب العالمية الثانية وما سببته من دمار وخراب وأدت في النهاية إلى هزيمة ألمانيا وانتحار هتلر.
صدام حسين ارتكب الخطأ نفسه عندما استند إلى مبررات وادعاءات تاريخية واستراتيجية واهية واستخدم قواته المسلحة لغزو دولة الكويت في الثاني من أغسطس 1990 مستهترًا بالنظام العالمي، ظانًّا أن العالم لن يكترث أو يهتم بمصير دولة صغيرة مثل الكويت، وتمكن هو أيضًا من تحقيق انتصار في الأيام الأولى للحرب والسيطرة على كامل الأراضي الكويتية في وقت قياسي، وبعد ستة أشهر هُزم صدام حسين وهزمت القوات العراقية وأخرجت من الكويت بالقوة العسكرية، فدخلت المنطقة بأسرها في دوامة من الحروب والاقتتال والأعمال الإرهابية، وقامت أميركا باحتلال العراق الذي دخل بدوره في حالة من التمزق والتشرذم، وفي النهاية تم إعدام صدام حسين شنقًا حتى الموت، وظلت الكويت حرة مستقلة تتمتع باعتراف واحترام الأسرة الدولية؛ وعليه فإن مصير غزو بوتين لأوكرانيا لن يختلف عن مصير غزو هتلر لبولندا وغزو صدام حسين للكويت.
وفي كل الأحوال، فإن غزو روسيا لأوكرانيا وتداعياته سيتجاوز بلا شك حدود القارة الأوروبية، سيشعل من جديد الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة، وروسيا وحدها من جهة أخرى بدون سند باقي دول المعسكر الشيوعي كما كانت الحال من قبل. إن الحرب الباردة إذا نشبت ستزيد من حدة الاستقطاب في مجمل العلاقات الدولية، ويبقى السؤال مطروحًا عن موقف الصين وإيران في حالة نشوبها.
وبالنسبة إلى منطقتنا، أو بالتحديد الدول العربية الخليجية؛ فإن موقفها في حالة نشوب الحرب الباردة سيكون، كما كان من قبل إلى جانب الولايات المتحدة والمعسكر الغربي. ومن ناحية أخرى، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا جعل إمكانية فوز الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة وعودته إلى البيت الأبيض أكثر احتمالًا، وهو أمر لن تخفي الدول العربية الخليجية اغتباطها به في حالة حدوثه، كما أن هذا الغزو سيؤدي إلى انتقال الاهتمام والتركيز الأميركي والغربي إلى ملف الأزمة الأوكرانية على حساب ملف مفاوضات فيينا بشأن الاتفاق النووي، هذه الأزمة قد تتيح الفرصة لإيران أيضًا للمزيد من المماطلة والمراوغة والمزايدة، وسيفتح المجال لها للضغط على الأطراف الأخرى لقبول شروطها.
وتشير بل تؤكد بعض التحليلات والدراسات إلى أن الدول العربية الخليجية ستكون أكبر المستفيدين من هذه الأزمة؛ بصفتها أكبر كتلة منتجة للنفط والغاز في العالم؛ فالولايات المتحدة وحلفاؤها سيلجأون كما قلنا من قبل إلى استخدام أشد وأقسى العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، ويأتي قطاع النفط والغاز على رأس أهم روافد الاقتصاد الروسي، فإذا طالت العقوبات هذا القطاع فإن إمدادات النفط والغاز الروسي إلى الدول الأوروبية وغيرها ستتوقف أو تتراجع، ويصبح البديل أو الخيار الآخر المتاح هي الدول العربية الخليجية التي سيتم الاعتماد عليها لتعويض وسد النقص بما يؤدي إلى ارتفاع أو تضاعف مداخيلها النفطية.
وقبل أن يحصل ذلك أو نصل إلى تلك المرحلة، فإن أسواق مصادر الطاقة شهدت اضطرابات ملحوظة وارتفعت أسعار النفط فور اندلاع الأزمة وتجاوزت حاجز الـ100 دولار لأول مرة منذ سبع سنوات.
وفي حالة حدوث ارتفاع في مداخيل الدول العربية الخليجة نتيجة لارتفاع أسعار النفط والغاز وزيادة الإنتاج لسد النقص في الأسواق، فإن ذلك سيقابله ارتفاع حاد في أكلاف استيراد ونقل المواد الغذائية وجميع المنتجات الأخرى التي تستوردها هذه الدول، وبذلك يتحقق المثل الخليجي القائل: “صبّه ردّه” وتتحقق كذلك القاعدة التي تؤكد أن لا أحد يربح أو يستفيد من الحروب، وقد يكون لكل قاعدة شواذ.