في 13 نوفمبر الماضي نشرت لي "البلاد" مقالاً انتقدت فيه وزير الإعلام اللبناني السابق جورج قرداحي وحزب الله، وكنت وقتذاك في مستهل رحلة سياحية للمغرب مع مجموعة من الأصدقاء، ومن عادتي في الأسفار وأنا على مائدة الإفطار اليومي بالفندق أن أتصفح في "موبايلي" سريعاً أخبار الوطن من مصادر شتى، من بينها ما يبعثه الأصدقاء، لكن في صباح يوم النشر ما إن فتحته - وقبل أن أراجع مقالي في النسخة الإلكترونية - فوجئت بانهمار سيل متدفق من التعليقات الساخطة عليه في "الواتساب"، تراوحت بين القذف والشتائم من قِبل مجهولين لا أعرفهم، إلى الانتقاد القاسي من قِبل أصدقاء ومعارف، لكن ما يجمع كل التعليقات الطعن أو التشكيك - غمزاً أو جهراً- في وطنية كاتب المقال أو اتهامه بالعمالة والارتشاء لمجرد أن المقال لا يتفق وأهواءهم السياسية، والغريب أن تلك التعليقات تواصلت وإن بوتيرة أخف حتى اليوم السادس من السفر؛ إذ استلمت في ظهيرته تعليقاً يتيماً من صديق يحمل الدكتوراه، ومعروف بمؤلفاته الرصينة، وكان ممن أرسلوا رابط المقال مكتفياً بالتساؤل تحته: "ويش قصة هذا المقال"، فيما أرسله آخرون متسائلين عما إذا كان هو بقلمي حقاً!
في واقع الحال منذ أن احترفت الكتابة الصحافية قبل أكثر من 30 عاماً آليت على نفسي ألا أنشغل بردود القراء أو حتى الكتّاب، تفادياً لتسخير مقالاتي لهذا الغرض، وحتى عندما كتبت مقالاً هنا في خريف 2019 منتقداً "حزب الله" وإيران وشُنت حينها ضدي حملة مسعورة من قِبل المتيمين بالعشق الصوفي لسلطة الملالي وذيلها اللبناني "حزب الله" لم أعبأ بذلك على الإطلاق. ولما كانت الحملة الأخيرة جلها من معارف وأصدقاء وجدت بعد تأمل وتفكر طويلين أننا إزاء مسألة ملتبسة معقدة، ولأهميتها فإنها تستحق الوقوف عندها للاجتهاد في تحليلها لما لها من صلة بظاهرة "التفكير الشمولي" المزمنة وما يفضي إليه توطنها في العقول واللاشعور من مقت شديد للرأي الآخر، وهي قضية أحسبها لا تخص نخبتنا المثقفة السياسية في البحرين فحسب، بل ونخبتنا العربية قاطبة.
بداية يهمني التأكيد على ثلاث ملاحظات مهمة:
الأولى: إن هذا المقال كتبته في نوفمبر الماضي بعد أسبوعين من عودتي للبلاد من المغرب وقمت بأرشفته لنشر مقالات تباعاً ارتأيتها أهم منه.
الثانية: إن المقال يُعبّر بالكامل عن قناعاتي الشخصية من أول كلمة في عنوانه حتى آخر كلمة في نصه، ولم يُوعز لي البتة بكتابته أو يُلصق اسمي عليه زوراً! وعلى العكس من ذلك فلعل "البلاد" من الصحف العربية القليلة التي تحرص على إبلاغ الكاتب إذا ما ارتأت - وفق مسؤولياتها - حذف فقرة أو استبدالها بأخرى، بل حتى إذا ما تطلب الأمر استبدال مقال بآخر تبلغ الكاتب بذلك لو شاء وأسعفه الوقت، وهذا لا يحدث إلا في أحوال نادرة جداً.
الثالثة: إن من يقرأ المقال من أول سطر فيه - بتأن دون تسرع - حتماً سيفهم مقاصده، ولا يخطئ في فهمه إلا المتسرعون. والمضحك المبكي أن لجأ أحدهم لتعزيز ما يتوهم بصحة انتقاداته للمقال وبوجود إجماع على إدانته أن بعث لي مقتطفات مصورة من ثلاث "قروبات" هو مشارك فيها، مع حذفه - إلكترونياً - أسماء المشاركين الذين تناولوه بالنقد الجارح والتأويل الفاسد، وبقدر ما يسعد أي كاتب اتساع شريحة قرائه - أيا تكن المواقف من آرائه - فإنه من المؤلم أن يتدنى أسلوبه في الإفحام إلى هذا المستوى السطحي!
إن هذا النوع من النقد الهدام لم يأت في تقديري من واعز ذاتي فحسب، بل والأهم من ذلك ومن إشكالية موضوعية مزمنة معقدة ترتبط بالتفكير الشمولي المديد الذي استوطن عقولنا وأفئدتنا في عالمنا العربي، ويحدد لنا لا شعورياً كيفية بناء مواقفنا وآرائنا جراء رواسب مستقرة في المواقف من القضية الفلسطينية وقضايا حركات التحرر الوطني، وهذه الإشكالية بحاجة لشرح لا يتسع المقام هنا لبسطها، لكن نأمل تناولها في المستقبل القريب، ولعلي أجد في الفيلم الوثائقي القيّم الذي بثته قناة DW الألمانية بمناسبة الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفييتي قبيل نهاية العام المنصرم تحت عنوان: "الشخصية السوفييتية.. آثار الاتحاد السوفييتي في العقول" ما يقرّب كثيراً المعنى الذي أقصده في حالتنا العربية، وأنصح بكل تواضع كل مهتم بالمسألة بمشاهدته.