استكمالاً لحديثنا عن الحاجة الملحة للإصلاح اللغوي الذي تناولناه تحت عنوان “إميل يعقوب وتيسير العربية” بتاريخ 23 أكتوبر الماضي؛ نتطرق اليوم إلى قضية أراها عظيمة الأهمية، وتتمثل في أثر الجمود النحوي المزمن منذ اثني عشر قرناً في وأد ملكة الإبداع عند المثقف العربي المعاصر، أكان أديباً أم فناناً، ولعل قلة - إن وُجدت - من المجددين اللغويين هي التي التفتت إلى هذه القضية، علماً أن قضية الإصلاح اللغوي شغلت اهتمام بعض كبار اللغويين والمثقفين العرب في وقت مبكر من القرن الآفل، ومنهم عميد الأدب العربي طه حسين الذي أفرد لها جزءاً من كتابه المهم “مستقبل الثقافة في مصر”، وفيه يقول: “وما حاجة العامة إلى النحو إذا ضمنت الإصابة، وعصموا حين يقرأون ويكتبون” (ص 198 - 199 من الكتاب)، ويؤكد أن إصلاح اللغة شرط أساسي لإصلاح التعليم، وأنه لو عاد الأمر إليه لألغى دروس النحو في المدارس، ويقصد هنا في ظل استمرار النحو على جموده القديم المعقد بلا تجديد.
وإذ يلفت المفكر السوري الفلسطيني أحمد برقاوي النظر إلى أن كثيراً من الأمم لا تخطئ في نحو لغاتها، ويضرب مثلاً باللغة الروسية؛ فرغم أن نحوها من الصعوبة بمكان - على حد تعبيره - لكن قلما تجد الروسي يخطئ في لغته حتى في حياته اليومية العادية، ومثل هذه المزيّة نجدها عند الناطقين بسائر لغات العالم الأساسية كالإنجليزية والفرنسية، ولنا أن نتخيّل كم من مئات الآلاف ممن يملكون ملكة الإبداع والموهبة الواعدة سواء في الشعر أو الرواية أو المسرح وتخسرهم ساحتنا الإبداعية لخشيتهم الوقوع في أخطاء لغوية، ولذلك نجدهم يستنكفون مُحبطين عن تطوير وتنمية هذه الملكة ويهجرونها، وربما وجدت كثرة منهم ضالتها الإبداعية في الشعر الشعبي الذي يُعد هو الآخر من الظواهر التي تكاد تنفرد بها لغتنا بين لغات العالم، وكم من مبدعين كبار في الخط العربي يشعرون بحرج بالغ إذا ما تمت ملاحقتهم بأخطاء لغوية تعيب خطوطهم الجميلة. وهكذا يمكننا القول إن هذه العقدة الإشكالية التي تعتمل بمرارة في نفس المبدع العربي المبتدئ لا تراود على الإطلاق المبدعين المبتدئين في اللغات الأجنبية.