قبيل أيام وبمناسبة مرور 30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي وصف الرئيس الروسي بوتين هذا الانهيار بـ "الكارثة" وأنه بلغ الأمر في روسيا غداة تفككه إلى أن عملاء الـ CIA أضحوا يعملون كمستشارين في مكاتب الحكومة الروسية؛ بل وتسللوا إلى المنشآت النووية، وبات الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يتطلعون إلى تفكيك الاتحاد الروسي، ومع أن بوادر نهيار الاتحاد السوفييتي برزت أواخر الثمانينات في عهد جورباتشوف آخر رئيس له، إلا أنها تعززت بقوة إثر الانقلاب الفاشل عليه بقيادة جينادي ياناييف أحد قادة لجنة الدولة للطوارئ في أغسطس 1991، ثم جاء اجتماع زعماء ثلاث جمهوريات سوفييتية، روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا، أوائل ديسمبر 1991 في مقر حكومي بغابة بيلوفيجسكايا على الحدود البلوروسية البولندية وتوقيع كل منهم على بيان يؤكد إنهاء الدولة السوفييتية ككيان قانوني دولي ليدق المسمار الأخير في نعش هذه الدولة العظمى.
كما بثت قناة RT الروسية تقريراً تحقيقيا في ذكرى الانقلاب الفاشل على جورباتشوف في أغسطس الماضي بعنوان "لماذا انهار الاتحاد السوفييتي؟"، لكن التقرير لم يتعمق إلى جذور الأسباب الداخلية التاريخية منذ تأسيسه في مثل هذا الشهر أيضاً 1922، مركزاً على عوامل وتفاعلات الانهيار خلال عهد جورباتشوف التي كانت أشبه بالنتائج، لكن التقرير وُفق في تشبيهه الحالة المزرية التي بلغها الاتحاد السوفييتي مطلع الثمانينات بطائرة ضخمة محلقة في الجو يشير كابتنها في البداية إلى سلامة محركيها الاثنين، بيد أن الطيارين كثيراً ما يتبدلون "إشارة إلى ثلاثة زعماء سوفييت طاعنين في السن تناوبوا على الحكم: بريجنيف وأندروبوف وتشيرنينكو"، ثم اقترح كابتن جديد تغيير اتجاهها قليلاً "إشارة لتولي جورباتشوف القيادة"، وحينما أمال الطيار الجديد قليل الخبرة الطائرة بقوة فقد التحكم في السرعة وبات تعرضها للسقوط محتوماً وهو ما كان.
ومن المفارقات الساخرة إذ أجاد التقرير تشبيه سقوط الاتحاد السوفييتي بكارثة سقوط طائرة كبيرة، فاته أن هذه الكارثة كان يمكن قراءتها والتنبؤ بها مقدما من مأساة عالم الطيران والفضاء الكبير سيرغي كورويلوف الذي ظلمه النظام أشد ظلم.
يعتبر كوروليوف المولود 1907 الأب الروحي والعالم الأول في الطيران وتصميم الأقمار الاصطناعية في الاتحاد السوفييتي، وبرزت ذروة موهبته عندما تطورت إلى تصميم وصنع الصواريخ المجنحة، لكن مأساته بدأت حينما اُعتقل ظلماً ضمن حملات التطهير الستالينية 1938 بذريعة واهية هي أنه ينتمي إلى منظمة تروتسكية وبات "عدواً للشعب"، وتعرض أثناء التحقيق لصنوف التعذيب الوحشي وكُسر فكه وفقد كل أسنانه، وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات قضى منها ست سنوات في معتقلات العمل الإجباري في "كوليما"، حيث عمل في منجم الذهب "مالدياك"، وفي خريف 1940 نُقل إلى معتقل سري بموسكو يُعتقل فيه نخبة من العلماء والمصممين، مكلفون بمواصلة تنفيذ مشاريع علمية بداخله، بينهم مصمم الطائرات الشهير توبوليف، وظل اسم كورويلوف مجهولا حتى بعد الإفراج عنه. وفي 1957 نجح في إطلاق أول قمر اصطناعي في تاريخ البشرية، وفي 1961 صنع أول سفينة فضائية مأهولة للفضاء "فوستوك"، وهو من تتلمذ على يده أول رائد فضاء في العالم، يوري جاجارين، واختاره لتنفيذ هذه المهمة في 1961، وكوروليوف هو أيضاً أول من صمم محطة فضائية طويلة الأمد سُميت "سيوز"، وردت الولايات المتحدة على هذا التحدي بمشروع أبولو لصنع مجمع فضائي قمري يتيح هبوط رائدي فضاء على القمر، وهو ما تحقق لها في 1969، وكان هذا السبق كفيلا بأن يحققه الاتحاد السوفييتي من خلال كوروليوف لولا أن أعطاءه الضوء الأخضر للمضي فيه قُدماً جاء من القيادة متأخراً؛ بل وفي عشية وفاته المأساوية المبكرة 1966 عن عمر لا يتجاوز التاسعة والخمسين لتُمنٰى بذلك علوم وبرامج الفضاء السوفييتية بخسارة فادحة. ولك أن تتخيل كيف يمكن لدولة عظمى أن تواصل قوتها وعظمتها في ظل قيادة ديكتاتورية هكذا جرائمها بحق أعظم عباقرتها وعلمائها!.