لا يكاد أحد من أبناء جيلي المأخوذين بشغف القراءة منذ صباهم لم يتعرف على سلامة موسى، وأن يتأثر به في تفتحه وتثقيف نفسه بالثقافة الرصينة المستنيرة، بل أزعم بأن ثمة أكثر من جيل ممن سبقونا تأثروا به، ومن بينهم أدباء ومفكرون، ونجيب محفوظ واحد من هؤلاء، إذ يروي في مذكراته للناقد رجاء النقاش بأن موسى هو أول من احتضن كتاباته وبداياته الأدبية الأولى على صفحات مجلته "المجلة الجديدة" منذ أن كان طالباً ثانوياً، كما ساعده موسى لاحقاً لإصدار روايته "عبث الأقدار" عن دار المجلة نفسها، وكان محفوظ قد قرأ وتأثر بكل مؤلفاته التي كان يصدرها حينذاك. والحق فقد كان موسى واحداً من رواد الفكر الذين كانت لكتاباتهم ومؤلفاتهم دور في منتهى الأهمية في تغذية العقول العربية بالثقافة التنويرية ليس في مصر فحسب بل على امتداد عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج. وبصفته مفكراً موسوعياً مازالت مؤلفاته تحتفظ بقيمتها المتميزة حتى يومنا، بل وكأنها تخاطب قضايا عصرنا، ومن ثم تبرز الحاجة هنا لتشجيع لإعادة طبع أعمال مثل هؤلاء المفكرين وتحفيز الشباب على الإقبال عليها، في ظل الموجة الظلامية التي طال جثومها على عالمنا العربي منذ نحو نصف قرن.
وكان موسى من مجاييلي رواد الفكر التنويريين في عصره، والذين كانت لسجالاتهم واختلافاتهم بطريقة موضوعية على صفحات الصحف دور صحي مفيد في إخصاب الفكر العربي وتوليد الأفكار النهضوية، ومن هؤلاء طه حسين، حيث كانت للرجلين سجالات في قضايا ومسائل فكرية شتى، لكنها كانت بعيدة عن الشخصنة والإسفاف حتى أن طه حسين وضعه ضمن قائمة الكتّاب الكبار الذين استكتبتهم في مجلته " الكاتب المصري"، عشية تأسيسها، ولم يستغل موقعه كرئيس للتحرير لتهميشه أو تطفيشه بوسائل دنيئة لحمله على الانسحاب منها بدوافع الخوف من بروزه فيها، على نحو ما تزخر به صحافتنا العربية المستقلة والحزبية بنماذج لا حصر لها من هذه الظاهرة المرضية المؤسفة في عصر ما بعد رحيله( ت 1958). والمدهش في سيرة المفكر الموسوعي سلامة موسى أنه على الرغم مما يُعرف عنه بنهمه الشديد للقراءة وتثقيف نفسه بشتى ضروب المعرفة،إلا أنه كان متمرداً على النظام التعليمي،فقد أكتفى بالمرحلة الثانوية، على نحو يذكّرنا بالكاتب والأديب الكبير عباس محمود العقاد الذي اكتفى بالابتدائية، لكن موسى إنما خاض بكل اقتدار سجالات مع أترابه المفكرين الرواد متسلحاً بثقافته الموسوعية المعمقة، وبما قرأه لرواد الفكر في عصره أو ممن سبقوه، ومن أبرز هؤلاء على سبيل المثال: محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وشبلي شميل وفرح أنطون ولطفي السيد.هذا بخلاف اطلاعه الدؤوب على أهم الصحف الثقافية التي كانت تصدر في عصره، كالمقطم والمقتطف والجامعة، وهو إلى ذلك-كنظيره طه حسين- كان رائداً كبيراً من رواد الصحافة، وقد كتب مئات أو آلاف المقالات في صحف متعددة، منها الهلال و الأهرام، فضلا عن توليه رئاسة التحرير لمجلة الهلال المرموقة من 1924 إلى 1929، حيث أسس في هذا العام مجلة" المجلة الجديدة" التي أوقفها رئيس الحكومة حينذاك صدقي باشا عام 1933، وظلت متوقفة حتى عام 1942. وهو أول من اكتشف موهبة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ وفتح له صفحات صحيفته للكتابة فيها. وبالرغم من تأثره بالاشتراكية الفابية التي كان برنارد شو أحد مؤسسيها أثناء إقامته في لندن والتي تتبنى تحقيق الاشتراكية سلمياً عن طريق الإصلاحات الدستورية، إلا أنه قُبض عليه في بلاده عام 1946 بتهمة "الشيوعية"، وهي التهمة التي ظل يتحاشى وصمه بها في زمن كانت تُحارب فيه "الشيوعية" بشدة،حتى أنه انسحب من الحزب الاشتراكي المصري عام 1921لتبنيه الماركسية، لكنه اعترف قبل وفاته بفترة قصيرة بأن كارل ماركس هو أكثر من تأثر به من رواد الاشتراكية على اختلاف مدارسهم، إلا أنه تجنب ذكره ضمن الأسماء الذين تأثر بهم في كتابه "هؤلاء علموني". كما كان سلامة موسى ممن سبقوا عصرهم في رفض "عقوبة" الإعدام التي لم تقرر معظم دول الغرب الديمقراطية التخلي عنها إلا في العقود القليلة الماضية.
و رغم أن طه حسين وسلامة موسى كلاهما من الرواد الذين دعوا إلى الحداثة والتجديد،كما دعيا أيضاً إلى إقامة العدالة الاجتماعية،فإنهما اختلفا في كيفية تحقيق هاتين الغايتين،فضلاً عن اختلافهما في الموقف من الأدب العربي الذي كان موسى يزدريه، كما كان يدعو في فترة من الفترات إلى إحلال العامية محل الفصحى، فيما كان طه حسين يرفض ذلك تبني العامية المصرية، وأخذ الأخير على تسرع الأول في إصدار الأحكام القاطعة في المسائل الخلافية الشائكة،كالموقف من أدوار الإنجليز والفرنسيين. وفي نقده لكتابه " مختارات سلامة موسى" في حديث الأربعاء بصحيفة السياسة يأخذ عليه طه حسين، بأن إسرافه في القراءة قاده إلى الإسراف والتسرع في الكتابة عن موضوعات دون روية وأناة، ودون أن يخضعها للبحث والتفكير. كما غمز طه حسين إلى أن موسى يتوخى الحذر عن الكشف عن رأيه السياسي الصريح!
على أن هذه الاختلافات والمساجلات الصريحة بين الرجلين لم تحل دون حفاظهما على رباط الود الذي كان يجمعهما كما أشرنا آنفاً.