العدد 5687
الجمعة 10 مايو 2024
banner
سنوات الحُب والدراسة
الجمعة 10 مايو 2024

ثمة تعبير جميل للشاعر اللبناني الكبير شوقي بزيع لأثر الحُب في إشعال جذوة إبداع الأديب أو المثقف، حيث يقول بأنه ليس مستغرباً :" أن يكون الحُب  ببعديه الجسدي والروحي أحد المناجم التي لا تنضب للإبداع، وأن يرفد الشعر والأدب عبر التاريخ بأكثر النصوص صلةً باضطرام القلب والشغف المحموم والتوهج التعبيري".( الشرق الأوسط،26 مارس 2024).وإذا كان هذا هو التأثير الكبير الإلهامي في تفجير جذوة الإبداع لدى المحبين الأدباء الأسوياء بلا عاهات، فلنا أن نتخيل مدى تأثيره الهائل والأقوى لدى الأدباء المبتلين بأي عاهة خلقية،ولا سيما الأكفاء، والذين تكاد آمالهم في العثور على فتاة سوية معدومة. ومن هنا يمكننا فهم بأن طه حسين ما كان ليحقق ذلك التطور العظيم في علمه ومعارفه وإبداعه الأدبي والفكري لولا نجاحه في حُبه واقترانه بالفتاة سوزان بريسو أثناء دراسته في فرنسا.

وإذا ما صح التعبير في حالته لقلنا: إنه الحُب من أول نبرة لصوتها، ولقد عبّر الفتى عن هيامه بالصوت في كتابه "الأيام" قائلاً:" سمع الفتى ذلك الصوت من شعر راسين ذات يوم، فأحس كأنه خُلق خلقاً جديداً، ومنذ تلك الساعة لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلا".ثم يستطرد: " فقد كان الصوت يصحبه دائماً لا يكاد يخلو إلى نفسه في ليل أو نهار إلا سمعه يقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك، في تلك النبرات التي كانت تسبق إلى قلبه فتملؤه رضى وغبطةً وسرورا". وكان الطالب الشاب قد نشر إعلاناً في إحدى الصحف الفرنسية عن حاجته-بصفته طالباً أجنبياً ضريراً- إلى فتاة تقرأ له مصادره الفرنسية، فلبت طلبه إثنتان إحداهما آلية بلا مشاعر، والثانية ثرثارة إلى درجة سؤمه منها،حتى قيّض الله له الفتاة بريسو لتأدية المهمة على أحسن وجه، وانخرطت فيها بكل بجدية وإنسانية ورقة إنسانية،وبعد مضي فترة من الزمن هام الطالب هياماً شديداً في عشق صوتها الأنثوي،فهو رآها وجسّد جمالها بأذنيه لا بعينيه،أولم يقل الشاعر الضرير بشّار بن برد"والأذن تعشق قبل العين أحياناً"؟.وقد أسمى صوتها الذي أشعل شرارة الُحب لديه "الصوت العذب"،وخصص فصلاً بهذا العنوان في" الأيام".كان هذا أثناء لقاءاته معها لتقرأ عليه. 

وعندما باغتها بجرأته في الإعراب عن حبه لها وهي على سرير المرض أثناء عيادتها، إنما فعل ذلك وكأنه يجرب حظه في ورقة "يانصيب" متوقعاً الفشل أكبر من الفوز، فجاء ردها طبيعياً من هول المفاجأة المباغتة بأنها لا تحبه، فيما رد هو: "وأي بأس بذلك؟". ثم دخل في ناكتئاب شديد وتعرّض لنوبات ليلية من الأرق الطويل انعكست بوضوح على محياه المرهق جراء تعثر حلمه،فشعرت خليلته بذلك على إثر تواصلها معه لإداء مهمتها العلمية بشكل طبيعي،فكأنما ردها السلبي على اعترافه بحُبه لها صفحة وقد طُويت على خلاف ما توقع. ولما أصرت على معرفة سبب تغير ما يبدو عليه وجهه من هم وغم،فما كان منه إلا أن صارحها بالسبب،لكنها طمأنته بلباقة بأنها ما زالت تفكر في الموضوع، وأن ردها النهائي سيكون خلال الصيف الوشيك والذي ستقضيه مع عائلتها في الريف،وستتواصل معه بالرسائل، فإن وصلته الرسالة التي تفيد بطلب التحاقه بهم في الريف فإن ذلك دلالة له على تجاوبها مع أبداه من حُب لها، حتى استلم الرسالة الموعودة الواعدة بأن يلتحق بهم في الريف، ففعل ذلك وتمت هنالك خطوبتهما، وقضى معها ومع أسرتها أياماً جميلة طويلة كانت أشبه بشهر العسل لفرط شعوره بالسعادة والمتعة اللتين غمرتاه، وقد عبّر عن ذلك باغتباط لا يُوصف في " الأيام": "وأنظر إلى فتاة وفتى في أول عهدهما بالخطبة ينفقان أكثر النهار في درس اللاتينية حين يصبحان، وفي قراءة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون حتى يرتفع الضحى. فإذا جاء وقت الغذاء ألما بالمائدة فأصابا شيئاً من طعام، ثم أقبلا على تاريخ اليونان والرومان فقرآ ما شاء الله أن يقرآ. فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفا عن تاريخ اليونان والرومان إلى الأدب الفرنسي فقرآ منه ما شاء الله أن يقرآ كذلك. لا ينصرفان عن القراءة إلا ريثما يخرجان للتروض خارج القرية التي يعيشان فيها. يُنفقان في تروضهما ساعة أو أقل من ساعة ثم يعودان إلى المائدة فيصيبان شيئاً من طعام ثم تجتمع الأُسرة كلها إلى كتاب يقرأه عليه ذلك الصوت العذب". 

إذن هكذا كانت طبيعة علاقة الحُب بينهما الفريدة من نوعها، لعدم جعله هذه العلاقة الغرامية تشغله عن واجباته الدراسية، جامعاً في توازن فريد مدهش بين علاقته العاطفية معها وبين التزاماته الدراسية.لكن في المقابل أي طينة جُبلت هذه الخطيبة ثم الزوجة الفرنسية التي لا تتأفف ولاتمل البتة من تأديتها لواجبها الروتيني اليومي بجلد وصبر ، لتقرأ عليه ما شاء الله من الكتب والمصادر في شتى ضروب المعرفة والعلم والأدب على مدى نحو ستة عقود متواصلة، بدءاً من سني دراسته في فرنسا حتى مماته 1973؟ هل كان يا تُرى سيجد طه حسين مثل هذه الطينة من الصبر والجلد والأهتمام لدى مثقفة من مثقفات وطنه أو من عالمنا العربي؟  

لا غرو والحال كذلك أن شبّه دورها الأستثنائي المحوري في تحول مجرى حياته جذرياً بأنها هي التي "أبصرتُ بعينيها" وهو التعبير الذي جعله عنواناً لأحد فصول "الأيام" أيضاً، فهو اعتراف كبير ظل يردده بمديونيته إليها لفضلها عليه بما يصعب تثمينه بأي ثمن في كل ما وصل إليه من قمم أدبية وفكرية،سواء على مستوى بلاده، أو على مستوى عالمنا العربي أو على مستوى العالم بأسره.فقد بدا وكأنه خُلق مولوداً جديداً بتلك العلاقة معها لما قدمته له من تضحيات جمة في سبيل رعايته وخدمته وفي سبيل تثقيفه قراءةً بكل ما يشاء من كتب ومصادر،هو الذي قال عنها: "بدونك أشعر أني أعمى حقاً"، ولطالما حدّث ابنته أمينة عن فضل أُمها في تكوين هذه الأسرة التي تظللها السعادة لاقترانها به.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .