منعطفان متلازمان كان لهما التأثير الجذري الحاسم في تحوّل وتطور حياة طه حسين،ولولاهما لما وصل إلى العالمية فكراً وأدباً وإبداعا، الأول: سفره إلى فرنسا للدراسة ونيل الدكتوراه الثانية بعد نيله الأولى من الجامعة المصرية ،والثاني:لقاءاته بالفتاة الفرنسية سوزان بريسو مساعدته في الدراسة حيث تكللت علاقة حُبه لها بالزواج الناجح طوال حياتهما الزواجية التي استمرت 56 عاماً حتى وفاته. وإذا كانت الأديبة والإعلامية البحرينية بروين حبيب وصفت علاقة الحُب التي جمعتهما بأنها جديرة " أن تُخلّد مع قصص الحُب العالمية مثل قيس وليلي وروميو وجوليت..."، فإني أكاد أزعم بأنها واحدة من معجزات الحُب الكبرى نادرة الوقوع في تاريخنا الحديث، بل تكاد أن تكون إلى الخيال أقرب من الواقع.
ولا يمكننا أن ندرك معنى هذا القول وأبعاده إلا إذا عرفنا بأن ثمة مثقفين كبار وفلاسفة عديدين فشلوا في قصص علاقات حُبهم أو في مشاريع لإقامتها،رغم كونهم أسوياء بلا عاهات، نذكر منهم على سبيل المثال 35 فيلسوفاً عالمياً استعرضهم الكاتب الأميركي أندرو شافر: نيتشة، و تولستوي،و دو ستويفسكي وجان جاك روسو،، و ديكارت ، و أرسطو، وأفلاطون، وسقراط،و لويس ألتوسير، و أوغوست كونت، وجون لوك، و سيمون دي بوفوار، و سارتر. وأنت لتقرأ في قصص بعضهم من المسلكيات وغرائب الأطوار والغرائب ما لا يخطر على بال،لعدم انسجامها مع المُثل والقيم التي كانوا يبشرون بها.(أنظر:أندرو شافر ، فلاسفة عظماء فشلوا في الحُب،دار سبعة، الرياض، الطبعة الأولى، 2021).
وعندما نزعم بأن علاقة الحُب التي جمعت بين طه حُسين والفتاة الفرنسية سوزان بريسو هي من معجزات الحُب الكبرى نادرة الوقوع في عصرنا، فلأننا لا نكاد نعثر بين قصص الحُب العربية والعالمية الشهيرة علاقة حُب بهذه الخصوصية التي اكتنفتها عقبات جمة،ومع ذلك تم تذليلها كما في حالة طه حسين،فقد كان محظوظاً ليس فقط بحصوله على موافقة حبيبته التي فاجأها بإعرابه الجريء عن حُبه لها وهي على سرير المرض، بل وأن تتوج العلاقة بعش زواج ناجح تظلله المودة والمحبة العميقة والتفاهم دون أن تعكره أو تهدده أية هزة واحدة. وفي ظل هذا العش داخل بلاده كتب أروع ما كتبه من مقالات ومؤلفات أدبية وفكرية وسياسية واجتماعية داخل مصر، هذا بخلاف ما كتبه في الخارج خلال فترات قصيرة متقطعة.ومن بين تلك العقبات الجمة ثمة عقبتان رئيسيتان انتصبتا أمام طريقي إتمام زواجه وإكمال دراسته: الأولى تتمثل في موقف عائلتها الرافض لزواجها من أجنبي ليس من بلدها فحسب،بل والأدهى من ذلك مسلم وكفيف، وسيأخذها بعد انتهاء دراسته لتعيش معه في الغربة ببلده المختلف كلياً-ثقافةً وحضارةً- عن وطنها فرنسا. لكن هذا الرفض الذي جابهته مع أُمها خصوصاً دفعها للعناد بالتمسك به، وقد عززه وقوف عمها القس إلى جانبها في إقناع الأُم والعائلة،وماكان هذا ليتم بطبيعة الحال لولا أن عمها يتمتع بالهيبة والمكانة والأحترام داخل العائلة كرجل دين، وسبق أن تعرف إلى طه حسين وأطمأن تماماً إلى خُلقه ورجاحة عقله ما يعوّل عليه في أي علاقة زواج ناجحة لابنة أخيه،وهذه فرصة قد لا تجدها بين الأسوياء بدون عاهة من أبناء بلادها.
أما العقبة الثانية التي انتصبت في طريق زواجه، بعد تغلبه على العقبة الأولى، فتتمثل في إقناع الجامعة المصرية التي ابتعثته بالزواج أثناء دراسته،وهو ما يتنافى مع أحد شروط البعثة، ونجح في أن تستثنيه من هذا الشرط. ولك أن تتأمل معي ماذا عسى سيكون مصير زواجه منها ودراسته لولا تمكنه من اجتياز تلكما العقبتين؟ ففي العقبة الأولى ستواجهه خيبة أمل مريرة لعدم تحقيق حلمه بالفتاة التي اختارها شريكة لحياته،ولا يُعلم عن مصير علاقته الدراسية بها بعدئذ كمساعدة له في تحصيله العلمي، وفي العقبة الثانية،فإنه لولا مرونة الجامعة المصرية معه في استثنائه من أحد شروط البعثة فلن يكون أمامه عندئذ سوى العودة خائباً إلى وطنه، هذا بافتراض موافقتها على هذه العودة معه دون إنجاز مشروعه الدراسي الذي سافر من أجله. ولك أن تتخيل معي هل كان بإمكانه أن يصل إلى العالمية والعظمة بدون زوجته، فلولا أن وقف القس عم الفتاة ذو النزعة التسامحية إلى جانبها فلربما لم يتمكن من الزواج منها،سيما وقد توسم فيه القس العبقرية والطيبة الإنسانية، وهكذا فقد ابتسم الحظ له في كلتا العقبتين، ولك أن تتخيل أيضاً مصير مستقبله العلمي بدون إكمال دراسته لو تمسكت الجامعة في تطبيق ذلك الشرط من شروط البعثة عليه.
وهكذا فقد كان محظوظاً في كلتا العقبتين،وفي تقديرنا بأن لعامل الشفقة الإنسانية المضمر دوراً في ذلك، سيما وقد توسم فيه القس عم الفتاة العبقرية والطيبة الإنسانية والإصرار على النجاح، وهو ما توسمته فيه أيضاً الجامعة المصرية كأول طالب مصري تمنحه الدكتوراه، لتستثنيه من أحد شروطها لللبعثة.
ولئن صحت مقولة "وراء كل رجل عظيم امرأة" فإنها تصح بصورة أكبر- بوجه خاص- على ما بلغه طه حسين من عظمة بفضل زوجته العظيمة سوزان بريسو،تماماً كما كان للفترة التي قضاها معها خلال سني دراسته في باريس دور محوري في توسيع معارفه العلمية والثقافية العامة الهائلة في مدينة الأنوار.