العدد 5692
الأربعاء 15 مايو 2024
الصوت العذب .. والثقافة الموسيقية
الأربعاء 15 مايو 2024


تحدثنا في المرة الآنفة عن دور ما أسماه طه حسين" الصوت العذب" الذي تمتلكه محبوبته سوزان بريسو في تشنيف أذنيه غراميا،باعتباره كفيفاً، وذلك في أوقات قراءتها عليه نصوصاً من كتب الأدب وشتى ضروب المعرفة والعلم، حتى أن افتتانه وعشقه لذلك الصوت جعله يهيم به في كثير من الأحيان ليأخذه الخيال بعيداً في تأمله واستعذابه أكثر من أن يتبين معاني ما تلقيه عليه من نصوص. ورغم ما يبدو لنا للوهلة الأولى بأن ما يعتقده حسين صوتاً عذباً هو من قبيل المبالغة لشدة عشقه وولعه بصوتها الأنثوي، إلا أن الواقع يكشف لنا-حسبما يرويه ابنهما مؤنس- بأن والدته كانت حقاً تمتلك صوتاً ندياً غنائياً عذباً ظلت تحتفظ به حتى سنوات متقدمة من عمرها.فحينما كانت والدته تقرأ على أبيه خلال سني دراسته في فرنسا لم يكن عمرها يتجاوز العشرين عاماً، فيما كان هو يكبرها بنحو سبع سنين. مهما يكن فإنه لم ينعم بالاستمتاع بصوتها الذي كان السبب الرئيسي في عشقه إياها فحسب، وإنما نعِم أيضاً بما قامت به من دور محوري في تثقيفه موسيقياً وتطوير ذائقته الموسيقية بأرقى الفنون الموسيقية الأُوروبية، فقد كانت في الواقع تحب الموسيقى الكلاسيكية حُباً جما،واعتنت بشد زوجها إلى عذوبة وأهمية هذا الضرب من الموسيقى، وبطبيعة الحال ما كانت لتشده إلى هذا النوع من الموسيقى لولا أنها تعرفه مثقفاً كبيراً وقارئاً نهماً تلائمه مثل تلك الموسيقى،ولهذا لم تكن غريبة عليه ألحان دوبريه ودوبارك وإيقاعات عديدة من أوبرا " زواج فيجارو" التي كانت تعشقها زوجته، وهي إلى ذلك صاحبة الفضل عليه في اكتشافه وتذوقه مقطوعات موسيقية لعدد من كبار عباقرة الموسيقى الأُوروبيين، أمثال: موزارت وباخ و بيتهوفن وبراهمز وشوبان شومان وشوبيرت وغيرهم. وفي كثير من الأحيان ما تستمتع الأسرة بالاستماع  إلى مثل هذه المقطوعات وغيرها بحضور ضيوفها المقربين. وهي إذ كانت تعتني أشد الاعتناء ببستنة البيت واختيار أشجار "الجنينة" وزهورها عنايةً فائقة فإنها كانت كذلك تستمتع بزقزقة العصافير وتغاريد الطيور المختلفة فيها. 
كما كان الزوجان يحرصان على زيارة الحفلات الموسيقية الراقية،ولطالما التقيا بمشاهير العازفين والمؤلفين الموسيقيين العالميين، سواء في مصر أو خلال رحلاتهما السياحية إلى أُوروبا. 
ويروي صهره محمد حسن الزيات بأنه بعد نهاية زيارة سياحية قام بها الزوجان حسين وبريسو إلى فرنسا، قرر الأول أن يُفاجأ زوجته بعد عودتهما إلى القاهرة بهدية عبارة عن جهاز بيانو اشتراه من مصر، فيما كانت قد فاجأته بأن أهدته ساعة اشترتها له مقدماً من فرنسا، وكانت زوجته تحرص أشد الحرص على إظهاره بأناقة كبيرة تتلائم مع علو مكانته على الساحة الثقافية والأدبية محلياً وعالمياً. لا غرو والحال كذلك إذا ما قيل بأن الموسيقى احتلت منزلة روحية وثقافية متميزة في بيت العميد.
على أن  أرملته بريسو  أزداد تعلقها بالموسيقى الكلاسيكية في أعقاب فجيعتها برحيله في خريف 1973 وأخذت تقضي ساعات طوال في الاستماع إليها، وهي وحيدة بدونه في منزلهما بالهرم.ومع أنها كانت تنصت إليها دون المتعة التي كانا يستمتعان بها معاً طوال حياتهما الزوجية، إلا أنها وجدت فيها سلواها وأُنسها الوحيد لمناجاته أثناء استماعها لتلك المقطوعات بعد رحيله :" ليس بوسعي أن أستمع إلى الموسيقى التي كنت تحبها ببرود أعصاب فها هنا أعثر عليك من جديد بشكل أفضل، وأصغي للموسيقى معك". وأحسبُ أن هذا الضرب من الموسيقى التي نجحت زوجته في تحبيبه إليه كان له أثر في تخفيف الضغوط النفسية عليه والتي كان يواجهها أثناء مواقفه الصعبة ومعاركه الأدبية إبان حياته الزوجية. 

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية