العدد 4338
الأحد 30 أغسطس 2020
banner
هيغل وروح الحضارات الشرقية
الأحد 30 أغسطس 2020

يعتبر الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770 - 1831) مؤسس المثالية الهيغلية الديالكتيكية (الجدلية)، حيث استخدم مبادئ الديالكتيك المعروفة (التناقض، وحدة الأضداد، الصراع والتراكمات الكمية والكيفية، القفزات،  الصيرورة، الطبيعة وما فوقها، الضرورة والحرية، الموضوع والذات...إلخ)، في إثبات أولوية الروح كفكرة قادرة على التغيير. وقد طبق هيغل هذه المبادئ الجدلية في تفسير التاريخ البشري، حيث اعتبر أن التاريخ هو عرض للروح، وأن ماهية (غاية) الروح هي الحرية - أي التاريخ عنده له غاية، وأن كل ما يحدث له معنى وله تبرير- ومن ثم كان مسار التاريخ هو تطور الوعي بالحرية، لكنها ليست حرية فردية سلبية تعسفية. هذه الغائية هي الجانب الموضوعي الذي يمثل الضرورة في مسار التاريخ، ولكن هذه الضرورة لا تعمل وحدها، فهناك الجانب الذاتي الحر للأفراد. لذلك فهناك ارتباط وثيق بين الضرورة والحرية في مسار التاريخ، والدافع لهذه الحركة هو التناقض الموجود بين الواقع الخارجي وما تريد الروح أن تحققه. (وهذا عكس الديالكتيكية المادية التي طبقها الفيلسوف كارل ماركس في تفسيره للتاريخ بصراعاتها الطبقية وصولا من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية الشيوعية التي كان يحلم بتحقيقها).

كانت هذه الجزئية بداية لمقدمة الدكتور إمام عبدالفتاح إمام في ترجمته لكتاب هيغل حول العقل في التاريخ، ضمن محاضرات هيغل في فلسفة التاريخ. وقد شرح د. إمام بشكل مبسط لفلسفة التاريخ الشرقي لدى هيغل، حيث أشار إلى أهمية معرفة رؤية هذا الفيلسوف الكبير لحضارات الشرق. وإن علينا كعرب أن نعرف المرحلة الأولى في مسيرة روح التاريخ والتي ابتدأت في الشرق - حسب رؤية هيغل - لكن الأهم لدينا أن نتأمل تحليله للشخصية الشرقية، وهو يتكلم عن آسيا التي بدأ فيها ما يسميه (بالتاريخ الكلي)، وحيث لا تزال الكثير من سماتها قائمة حتى وقتنا الراهن، ومن المفيد أن نتعرف عليها بجمالها وقبحها وخصائصها في الأخلاق والسياسة والدين، وبالتالي تمكننا هذه المعرفة من أن نصحح ما هو خاطئ وسلبي في الشخصية والسلوك والسياسة؛ بهدف التقدم نحو الأمام.

يُقسم هيغل الحرية كهدف وغاية للروح حسب مراحل التاريخ البشري، حيث بدأ بها التاريخ من عالمنا الشرقي (الصين، الهند، والإمبراطورية الفارسية الممتدة من فارس والعراق وسوريا وصولا إلى مصر) لتنتهي كقمة الوحدة الروحية والحرية في العالم الجرماني الأوروبي. ويوضح إمام في مقدمته لكتاب (العقل في التاريخ) بأن هيغل لا يركز على التاريخ السياسي أو الاقتصادي، وإنما هو هدفه التاريخ الفلسفي للعالم، ذلك لأنه يرى في التاريخ روحا تطمح إلى الحرية، وأن مسار التاريخ البشري هو محطات متتابعة تمثل درجات مختلفة من الوعي بالحرية، فمراحلها الأولى (الشرقية) تعبيرات ناقصة وذلك عكس المراحل التالية (الغربية) التي وصلت فيها إلى قمة الكمال، أي أن في عمق الحضارات المختلفة نجد عرضًا لمسار الروح (الأرواح القومية من أخلاقها ودينها ودولتها...إلخ)، وكلها تساوي عند هيغل (بروح الشعب).

المرحلة الأولى التي تبدأ منها روح التاريخ كانت في الصين، حيث لا وجود إلا لشخص واحد حر، وهو الحاكم (الإمبراطور)، أما المواطنون، فهم جميعا عبيد لهذا الحاكم. ورغم ذلك يوضح هيغل بأن حرية هذا الحاكم الشرقي لم تكن تعبيرا عن غاية (الحق)، ولذلك اعتبره طاغية لا إنسانا حرا. أما الحياة الاجتماعية في الصين، فكانت فيها الروح الفردي للصيني مندمجا في جوف الروح الجوهري (الكلي) أو الإرادة الكلية (الجمعية) للأفراد، فالدولة في الصين تعتمد أولا على ولاء الفرد للأسرة، وثانياً على ولائه للدولة، لذلك كانت العلاقة السائدة هي العلاقة الأبوية البطرياكية، مع وجود واجب أخلاقي يتمثل في الطاعة لسلطة الأب والدولة. هنا يظهر أب الجميع في شخص الإمبراطور صاحب الإرادة الكلية المطلقة. ويوضح إمام بأن هذا النمط من العلاقة في نظام سياسي اجتماعي لا مجال للحديث عن “حقوق” من أي نوع، سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو غيرها، إنما الحديث باستمرار عن “واجبات”. ويتوسع هيغل في إبراز خصائص أخرى؛ كدونية المرأة في مثل هذا النظام الأبوي الذكوري، “فالبنات عبء لدرجة أنه إذا ولد للأسرة بنات أكثر من حاجتها تركتهن الأسرة في الحقول ليقضي عليهن صقيع الليل أو الحيوانات الضارية”. أما الإمبراطور الذي يتربع على قمة البناء السياسي ويمارس حقوقه بطريقة الأب الشرقي مع أبنائه، فهو كبير العائلة الذي لا يجوز أن يعترض أحد على رأيه، وأنه هو الوحيد المشرع للقوانين، والناس - كلهم بمن فيهم أصحاب المناصب العليا كالوزراء- هم رعايا يخضعون للتأديب وإعادة التربية والعقاب. (إعادة التربية طبقت في الصين إبان الثورة الثقافية في عهد قائد الثورة الصينية ماوتسي تونغ). وعليه فَسَّر هيغل هذه الصفات بأنها مرتبطة بانعدام الشخصية الذاتية الفردية في الصين. فلا يوجد مثل هذا الشعور والإحساس بالفردية، لذلك كان الإحساس بالحرية مطموسا تماما. يقول هيغل “التفرقة بين الحرية والعبودية في الصين ليست كبيرة، ما دام الجميع متساوون أمام الإمبراطور، أعني أن الجميع متشابهون في المهانة، وبما أن الكرامة لا وجود لها بينهم، وليس للشخص حقوق فردية يتميز بها عن الآخر، فإن شعور الذل والهوان هو الشعور السائد”. وقد عكس الدين في الصين كل هذه الخصائص، فهو امتداد لانعدام الفردية. فديانة فو foo المنتشرة تنظر إلى العدم على أنه الوجود الأعلى، وتعتبر احتقار الفرد أعلى أنواع الكمال، وأن الإمبراطور هو الرئيس الأعلى للدين.

الهند كمرحلة ثانية للروح في الشرق: حيث الشكل البدائي للروح وهي في رحلتها الطويلة عبر التاريخ؛ لكي تتحرر من الطبيعة، ففي الصين كان وجود الروح خارجيا. ويشرح إمام ذلك، فالمبدأ الذي يحكمها هو الأبوية البطرياركية، لذلك فالخطوة التالية حسب الصيرورة الجدلية الهيغلية هي انتقال الروح من الخارج إلى الداخل، من الموضوع إلى الذات، وهذا ما حدث في الهند، لكن ليست الذات الفردية الحقيقية، وإنما فكرة عامة عن الذاتية، فكرة هلامية عن الوجود كله - أي اتحاد الذاتية والوجود بشكل خيالي - لذلك فالمبدأ العام للروح الهندية هو حالة الحلم، فالفرد في حال الحلم هذه يعجز أن يعي نفسه أو يفرق بينها وبين الموجودات الأخرى، بمعنى أوضح هناك جوهر واحد يتغلغل في جميع الأشياء، لذلك تصبح الأشياء المتناهية إلهية، كالشمس والقمر والنجوم والأنهار والحيوانات والزهور كلها آلهة، وحين يتحول المتناهي إلى إله يفقد جوهره وثباته، فيستحيل تكوين فكرة عقلية عنه. أما على صعيد الحياة السياسية في الهند، فهي عكسها في الصين التي كانت تعبر عن مساواة مطلقة بين الأفراد باعتبار جميعهم مندمجون في شخصية الإمبراطور (وحدة جوهرية)، ففي الهند بدأ الانتقال خطوة إلى الأمام، من الوحدة إلى الاختلاف، أو من الدمج إلى الانفصال. ويرى هيغل أن هذا التقدم الجوهري هو الوحيد الذي أحرزته الهند في تاريخ انتقال روح التاريخ نحو الحرية المنشودة، حيث تفرع الأعضاء المستقلون عن وحدة الاستبداد، غير أن هذا الانفصال أو الاختلاف لم يكن نابعًا من الروح ،بل من الطبيعة، لذلك تكونت الطبقات المغلقة المشهورة في الهند، كطبقة البراهمة (العنصر الإلهي)، وطبقة المحاربين، وطبقة المزارعين والحرف والتجار، وطبقة الخدم الذين هم مجرد أداة لراحة الآخرين (الشودرا). وجاء الدين الهندي ليعزز القيود والفواصل الصلبة بين الطوائف الطبقية التي وضعتها الطبيعة.

وجاءت بعد الصين والهند الإمبراطورية الفارسية، حيث قسَّم هيغل آسيا إلى قسمين؛ الأول هو آسيا البعيدة، والثاني هو آسيا القريبة،  حيث القرب والبعد بالنسبة لهيغل هو عن القارة الأوروبية. فالقسم البعيد هو الصين والهند وهما ينتميان إلى الجنس الآسيوي الأصيل، وهو الجنس المغولي. أما شعوب آسيا القريبة من أوروبا، فهي تنتمي إلى الجنس القوقازي، أي العرق الأوروبي، وهي ولهذا السبب أرقى. واعتبر هيغل ذلك خطوة إلى الأمام في مسار التاريخ. وشمل هيغل الإمبراطورية الفارسية أمما، ولكل أمة طابعها الخاص، بل بعضها يحكمها ملوك من أبناء جلدتها، ولكل منها لغتها وجيشها وطريقتها في الحياة، وقسَّمها إلى فارس وميديا وهي الأراضي المرتفعة، وسكان الساحل وهم السوريين والفينيقيين، وسكان سهول نهري دجلة والفرات وسهول وادي النيل. ويوضح إمام بأن هيغل اعتبر الإمبراطورية الفارسية قد أدخلت الشرق للتاريخ وانهارت بعد ذلك، وهذه هي صيرورة الحضارات في نظر هيغل. ومع فارس وخاصة الديانة الزرادشتية ظهر لأول مرة ذلك النور الذي يشرق لذاته ويضيء ما حوله؛ لأن نور زرادشت ينتمي إلى عالم الوعي، أي عالم الروح في ذاتها. ففي فارس-عكس الصين والهند- أصبح النور فوق الطوائف والطبقية. فهو الخير المجرد الذي يستطيع الكل على قدم المساواة الاقتراب منه، ومن ثم فإن الوحدة التي نصل إليها الآن لأول مرة تصبح مبدأ، وليست رابطة خارجية لنظام بغير روح. ولكن الدكتور إمام في شرحه لرؤية هيغل لم يعتبر النور الزرادشتي الوحدة الحرة لفكرة الروح، بل ولم تُعبد بعد كروح، ولكن هذا النور ليس كما عند الإله لاما الصيني أو البرهاما الهندي، جبلا أو حيوانا أو فردا مستبدا، ولا عبادة أوثان، وإنما عبادة روحية خالصة تُمثل الخير والحق وهي جوهر المعرفة والإرادة، كما إنه جوهر الأشياء الطبيعية كلها، وإن الإنسان هنا قادر على الاختيار بين الخير (النور) والشر (الظلام).

ومع اليهودية يتقدم الدين خطوة أخرى، ففكرة النور الزرادشتية تصبح “يهوة” أو الواحد الخالص الروحي، واعتبر هيغل عند هذه المحطة قد تم الانفصال بين الشرق والغرب الأوروبي، حيث أصبح الله هو سيد الطبيعة وخالقها، وخالق الكائنات الحية بمن فيها الإنسان. فقد كانت الطبيعة تمثل الأساس لدى كل الأديان الشرقية السابقة (الصينية والهندية والزرادشتية) وجاءت اليهودية التي حررت الروح مما هو مادي ومحسوس، وأصبح الفكر حُرا من أجل ذاته،  وبالتالي يمكن هنا أن تظهر الأخلاق الحقة. ومع ذلك اعتبر هيغل اليهودية مازالت مقيدة بعبادات وطقوس بطريقة غير روحية.

ومع مصر نصل إلى المركب النهائي في العالم الشرقي، فهي الجسر الذي عبرت عليه الروح من الشرق إلى الغرب، وخلاصة الروح المصري هي أنها تتألف من عنصرين أساسيين هما الروح الغارقة في الطبيعة والرغبة الملحة إلى التحرر منها. (ركز هيغل هنا كثيرا على دلالات تمثال أبو الهول ذات النصفين الإنساني والحيواني، وفي انتقال روح التاريخ من الشرق إلى الغرب أهمل تماما بأن الديانة المسيحية أصلها شرقي أيضا، ولم يعط للإسلام كدين وحضارة متأثرة ومؤثرة بين الشرق والغرب اعتبارا في تحليله).

واضح من رؤية هيغل للتاريخ البشري الشرقي وللشخصية الشرقية - وبالأخص الصينية والهندية - بأنه يميل للعنصرية الفظيعة والنظرة الضيقة، بل نظريته للتاريخ مركزة لصالح المركزية الأوربية. بل وصلت العنصرية لديه عندما قال “إن القدر المحتوم للإمبراطوريات الآسيوية أن تخضع للأوروبية، وسوف تضطر الصين في يوم من الأيام أن تستسلم لهذا المصير”، وأعتقد شخصيا إن تنبؤ هيغل بشأن الصين في وقتنا الراهن محل تأمل بين أمة صينية كانت مغلقة على ذاتها، وهي في وقتنا الراهن تقتحم العولمة بطريقتها الخاصة بين الانخراط في الرأسمالية الغربية كما تنبأ بها هيغل،  وتجربتها الاشتراكية الكونفوشسية المستمرة بقيادة الحزب الشيوعي الصيني راهناً.

كما يتضح من تحليل هيغل للتطور الفلسفي للتاريخ بأنه لم يكن منصفا للحضارة العربية الإسلامية ودورها الفلسفي المعروف في نقل المعرفة العقلانية الغربية التي دمرت في الغرب في عصور المرحلة المظلمة وتم إحياؤها في عصور التنوير الأوروبي. وحسب كلام مترجم كتابه الدكتور إمام عبدالفتاح بأن هيغل كان يستمد معلوماته عن الإسلام من بعض المبشرين - وليس المستشرقين - لكن ورغم كل ذلك يبقى تحليل هيغل للعقل والروح البشري في صيرورتهما التاريخية - وبالأخص الشرقية منها موضوع هذا المقال- يستحق التأمل فيه بروح معاصرة ونقدية موضوعية هادئة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .