+A
A-

بين بابكو والحكومة.. منعطفات وإصلاحات

مالية البحرين العامة، لم تكن عنوانًا لنظرية أو غلافًا لبحث أكاديمي أو شعارًا لمرحلة اقتصادية، لقد كانت في حالة البحرين نموذجًا يحتذي، وأملاً يرتجي، ومشروعًا بات من الواجب والضروري والحتمي الدخول إلى مغاراته الغامضة والتفتيش في أرقامه المبعثرة.
نعم.. لقد كان لمالية البحرين العامة في الفصل الرابع من كتاب وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني الأسبق عيسى عبدالله البورشيد ذلك الدور الاستباقي لدولة تعرف كيف تحافظ على توازن ميزانيتها الحكومية؟ وكيف تحترم تعاقداتها والتزاماتها تجاه الغير؟ ثم كيف وصلت مدفوعاتها مع الآخرين في مواعيدها المحددة من دون تلكؤ أو تأخير – رغم ضيق اليد وضعف الإمكانيات المالية؟
إنها فلسفة خاصة لعبت فيها حكمة أمير البحرين الراحل المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وشقيقه رئيس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة الدور الأكبر في كسب احترام العالم لنا؟ في دعم ثقة الصناديق الدولية فينا؟ ثم في حرص المؤسسات المالية العالمية على التعامل معنا بل والسعي إلى إنجاز المعاملات وإبرام الاتفاقيات مع كياننا الصغير في حجمه – الكبير في عقوله وإرادته؟

مشاهد ومحطات
مالية البحرين العامة مثلما يرصدها شاهد عصرها البورشيد منذ العام 1975م، تجلت في العديد من المشاهد، وتجسّدت على الكثير من المحطات أهمها أنه في أحد أيام شهر فبراير من العام 1975م اتصل به وكيل وزارة المالية حينها إبراهيم عبدالكريم، كنا نعرف بعضنا بحكم العمل، سويًّا بالمكتب الرئيس لشركة بابكو في العوالي، حيث عرض علي العمل معه في وزارة المالية كرئيس للمحاسبين وذلك من أجل تطوير نظام المالية العامة والمحاسبة في البحرين.
وبالرغم من أن الراتب المعروض مع الوظيفة الجديدة كان أقل مما كنت أتقاضاه من شركة بابكو كمحاسب للاستثمار ومقيم للمشاريع الجديدة المقترحة، إلا أنني قررت بدون تردد قبول العرض وذلك من أجل المساهمة في خدمة بلادي، لذا فإنني أدين بالشكر لإبراهيم عبدالكريم وعبدالله سيف والذي عرفت لاحقًا أنه من رشحني لهذا المنصب، وذلك على دعوتهما لي بالتشرف لخدمة الوطن، كما أن الشكر موصول في المقام الأول إلى قائد مسيرة التنمية والتطور في البحرين رئيس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة الذي شملنا برعايته وعطفه طوال فترة خدمتي في الجهاز الحكومي للدولة والذي بدونه ما كان من الممكن الوصول بالوطن إلى ما وصل عليه من رخاء واستقرار وعزة ورقي.
مباشرة ويعد التحاقي بالعمل في وزارة المالية، رتب لي إبراهيم عبدالكريم دورة تدريبية في كل وزارات الدولة، حيث مكثت في كل واحدة فترة للاطلاع على جميع أوجه العمل في هذه الجهات، ولقد ساعدني عملي لدى بابكو كمدقق داخلي على سرعة اكتشاف النواقص في الأساليب الإدارية والمالية، حيث إن التدقيق في بابكو كان يشدّد على دراسة هذه النظم من أجل إيجاد أكفأ الوسائل والطرق من أجل تحسين استخدام الموارد البشرية والمالية والتقنية المتوافرة.
بعد ذلك، رتب لي إبراهيم عبدالكريم زيارة لوزارة المالية في الكويت للاطلاع على نظام المالية العامة المطبق هناك، وكذلك نظام الموازنة العامة، وقد كان هذا مفيدًا إذ إننا في البحرين استنسخنا النظام الكويتي بكل إيجابياته وسلبياته.
كما تم الترتيب لحضوري ورشة عمل حول أنظمة المالية العامة الدولية في نيروبي بكينيا، وكان هذا عن طريق البنك الدولي.
بعد ذلك تم ترشيحي لحضور دورة تدريبية مكثفة في المالية العامة لمدة 4 شهور لدى صندوق النقد الدولي في واشنطن بالولايات المتحدة الأميركية.
بعد عودتي من هذه الدورة تم نقلي من وزارة المالية إلى وزارة التنمية والصناعة كمدير للنفط، حيث مكثت هناك لمدة قصيرة عدت بعدها لوزارة المالية بعد تعيين ابراهيم عبدالكريم وزيرًا للمالية التي تغيرت تسميتها إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني.
ضمن هذا التعديل تم استحداث إدارة جديدة باسم إدارة التخطيط الاقتصادي وذلك لاقتناع قيادة البلاد بالحاجة إلى اعتماد الوسائل الحديثة للتخطيط الاقتصادي والمالي، وذلك لأهمية وفاعلية هذه الأساليب في تحريك الطاقات الوطنية الكامنة وتوجيهها لتحقيق الأهداف التنموية، من خلال الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية النادرة المتمثلة في الموارد البشرية الماهرة والطبيعية المحدودة من أجل تحقيق أقصى المنافع الممكنة للاقتصاد الوطني ورفع مستوى دخل الفرد البحريني.

إنجازات وتحديات
يقول البورشيد: لا يتحرك الاقتصاد - أي اقتصاد من دون مالية عامة حاكمة، أنظمة محاسبيه ملزمة، وإجراءات إدارية مُحكمة، لا ينمو أي اقتصاد من دون مظلة رقمية تحدّد الأولويات وتجدول الالتزامات، وتقنن المدفوعات.
حكومة البحرين كانت ومازالت وستظل على دراية كاملة بهذه الاعتبارات، بل وبتوقيت تفعيلها، ففي عام 1976م وبعد أن اتضحت التشكيلات النهائية لملامح الاقتصاد الوطني الجديد طرأ تعديل وزاري محدود تم بموجبه كما أسلفنا تعيين إبراهيم عبدالكريم وزيرًا للمالية بدلاً من المرحوم محمود أحمد العلوي الذي تقاعد عن العمل الوزاري نظرًا لكبر سنه ولمرضه، ولكن القيادة الوفية أبت إلا أن تكرمه فمنحته منصب مستشار سمو رئيس الوزراء للشؤون المالية.
وهنا لا يمكنني المرور مرور الكرام على تلك الشخصية المعطاءة الوفية فمحمود العلوي رحمة الله عليه.. كان نعم المواطن الصالح المخلص لوطنه وقيادته وكان بمثابة الأب الحنون لكل من كان يعمل معه حيث كنت واحدًا منهم، كان طيب الله ثراه وجعل مثواه الجنة مرشدًا أمينًا ومساندًا دؤوبًا لكل من كان يعمل بجواره أو تحت رئاسته، كان يفعل ذلك بقلب وعقل مفتوحين، بصدق وحميمية من دون تمييز أو طائفية، رغم ذلك كان البعض يتنكر لأفضاله وينكر أهم خصاله بل أن هؤلاء “البعض” كانوا يبثون الشائعات المغرضة عنه لكن بفضل رعاية الله عزّ وجلّ وصلابة ودقة ووضوح وسلامة مواقفه تمكن من التغلب على تلك النفوس المريضة التي لا يخلو منها أي موقع عمل.
بعد التعديل الوزاري اتصل بي ابراهيم عبدالكريم مقترحًا عودتي مجددًا إلى وزارة المالية كمدير لإدارة التخطيط الاقتصادي والمالي، حيث كان قد تم استحداثها كي تتولى مسؤولية تطوير نظام المالية العامة للدولة واقتراح السياسات والخطط الاقتصادية، بالإضافة إلى الإشراف على مساهمات الدولة والشركات والمؤسسات الداخلية والخارجية في بنود تلك الميزانية.
والمعروف أن المسؤولية المذكورة والخاصة بمساهمات الدولة في الشركات انتقلت فيما بعد إلى شركة ممتلكات القابضة وغيرها من المؤسسات بعد أن كان يتابع المساهمات الحكومية في الشركات بالداخل والخارج قسمًا يتيمًا في وزارة المالية لا يتجاوز عدد موظفيه الخمسة أفراد وبتكلفة سنوية لا تزيد على الأربعين ألف دينار بحريني.

مالية عامة وتجربة خاصة
يكشف الكتاب عن تجارب خاصة متعددة المحاور مررنا بها ونحن نقوم في وزارة المالية باستحداث نموذج إطاري لمالية عامة لها من القدرة ومرونة الحركة ما يجعلها دائمة التعاطي بكفاءة مع المتغيرات.
لقد اكتشفنا ونحن نقوم بإعداد الدراسات اللازمة لوضع أسس مالية عامة مستحدثة للدولة أن نظام الموازنة في البحرين قد تعرض لأكثر من عملية إصلاح وتطوير آخرها كان في عام 1974م عندما تم اعتماد نظام موازنة الكويت كمرجعية معتمدة لدى حكومة البحرين، وذلك بعد أن تم ابتعاث حسن بن علي فلاح إلى الدولة الشقيقة للاطلاع على نظام الموازنة هناك.
وللحق أقول إن ذلك النظام قد أحدث نقلة نوعية كبرى للموازنة العامة في البحرين، إلا أنه مثل أي نظام إداري آخر له ايجابيات وأيضًا سلبيات، من أهم تلك السلبيات على ما أذكر أنه قد تم تصميمه لدولة ليست لديها أية مشكلة لتوفير أية “موارد مالية لدعم أنشطتها الحكومية، بالإضافة إلى ذلك كان النظام المالي الكويتي يشجع على التضخم الوظيفي والمالي كونه لا يعتمد علي تحديد البرامج الوزارية حيث كان يعتمد على ما يتم اعتماده عادة في الماضي بل وزيادة الاعتمادات المالية بصورة سنوية بغض النظر عن مدي كفاءة هذا الصرف أو إذا ما كانت هناك حاجة ملحة له أم لا؟
اكتشفنا أيضًا أن من سلبيات نظام المالية العامة الكويتي هي أن الوزارات لم تكن على بينة إدارية كاملة بالتزاماتها خلال السنوات اللاحقة، إذ إن الميزانية العامة للدولة يتم اعتمادها لسنة واحدة فقط، الأمر الذي يعني أن الالتزامات المالية للحكومة تكون مقصورة على السنة الأولى فقط من دون تحديد أو حتى تعريف بالالتزامات المالية الأكبر خلال السنوات اللاحقة.
لقد كانت الوزارات تلتزم ببرامج كبيرة لعدة سنوات بينما ترصد مبالغ صغيرة نسبيًّا في بداية تنفيذ هذه البرامج حتى لا تتأثر ميزانياتها بشكل كبير وبالتالي تفلت هذه البرامج من التدقيق والتمحيص من قبل وزارة المالية.
لقد أدى ذلك إلى نشوء مشكلة سيولة عند تمويل هذه الالتزامات اللاحقة، حيث واجهنا تلك المشكلة عند إعدادنا لميزانية المشاريع خلال الأعوام 1976، 1977، 1978م، إلا أنه من حسن الطالع أن الاقتصاد البحريني في حينها لم يتأثر بذلك نظرًا لتأخر تنفيذ عدد من المشاريع الملتزم بها في الميزانية، بناء على ذلك اقترحت وزارة المالية على الحكومة استحداث الميزانية التخطيطية وذلك عن طريق تدشين ميزانية السنتين كأول دولة في منطقة الشرق الأوسط حيث مازال نظامها معمولاً به حتى يومنا هذا - نظرًا لأنه يوفر كثيرًا من الجهد في الإعداد وعند مناقشة الميزانية الخاصة بالوزارات، كما أنه يساعد الحكومة على تقليص النمو المستمر في المصروفات المتكررة بالإضافة إلى أنه مّكن الجهات المسؤولة من التخطيط الجيد للاحتياجات المالية مما أدى إلى اعتبار الميزانية العامة للدولة بمثابة الأداة الرئيسية للتخطيط الاقتصادي بالإضافة طبعًا إلى تحرير الأجهزة الإدارية للدولة ومنحها حرية حركة أكبر عند تقديم خدماتها للمواطنين متجنبين إضاعة الوقت والهدر فيه عند إعداد ومناقشة الميزانيات السنوية التي كانت تستغرق ما لا يقل عن ثلاثة شهور كاملة.

نظام السنتين في الميزانية
لقد قضى نظام السنتين في الميزانية العامة والذي بدأنا بتطبيقه لفترة الميزانية 1978 و1979م على التسيب والإسراف عند تحديد مصروفات الوزارات وهو ما حدا بوزارة المالية إلى استحداث التقسيم النمطي لتلك الميزانية، وكذلك فيما يتعلق بالحسابات الحكومية، وهو ما كان معمولاً به في دول العالم المتقدم.
لقد كان تبويب الميزانية المتبع سابقًا بقسم الإيرادات أما المصروفات فقد تكونت من بابين لا ثالث لهما، المصروفات المتكررة والمصروفات الإنشائية. وكان للوزارات الحرية في استخدام الاعتمادات كيفما تشاء بحيث يمكنها صرف ميزانياتها على التوظيف أو على مشترياتها من السلع أو الخدمات، الأمر الذي أدى إلى تضخم في الجهاز الإداري وبالتالي زيادة كبرى في التزامات السنوات اللاحقة، حيث إن إضافة موظف جديد للجهاز الإداري يترتب عليه التزام بصرف راتبه ومستحقاته حتى يتقاعد. الأمر الذي جعل الالتزامات المالية الحكومية تتصاعد بشكل مضطرد.
كذلك فإن هذا النظام المالي والمحاسبي لم يأخذ بعين الاعتبار التكاليف التشغيلية للمشاريع والالتزام بها من قبل الوزارات والجهات الحكومية ذلك أن المشاريع كان يتم إقرارها من قبل وزارة المالية دون دراسة آثار تشغيل هذه المشاريع على الميزانية العامة للدولة مستقبلاً، حيث إن تشغيل هذه المشاريع يترتب عليه توظيف عمالة وشراء خدمات ومواد مستخدمة بالإضافة إلى الصيانة لسنوات طويلة.
نتيجة لذلك تضخمت المصروفات المتكررة السنوية لحكومة البحرين بشكل كبير حيث إنها ارتفعت من 67.6 مليون دينار في عام 1975م إلى 225 مليون دينار في عام 1981م بنمو سنوي قدره 34 % لكن هذا النمو الكبير تمت السيطرة عليه بحيث لم يتجاوز 10% للفترة 1981م إلى 1986م حيث كانت المصروفات المتكررة 225 مليون في عام 1981م و 333 مليونًا في عام 1986م ثم تم تخفيض هذا النمو إلى 5% في العام أي بمقدار النصف حيث كانت المصروفات 333 مليونًا في عام 1986م و 415 مليوناً في عام 1990م .