العدد 5680
الجمعة 03 مايو 2024
banner
احمد عبدالله الحسين
احمد عبدالله الحسين
خربشة ومغزى.. "السَّجْع.. بين التطريب والتشدَّق"
الأحد 21 أبريل 2024

السَّجْعُ بين التطريب والتشدَّق عنوان يتضح فيه؛ أن هنالك من السّجع ما فيه فصاحة وبيان وملامسة الذوق، وغيرة مُتكلف ثقيل الإيقاع على المسامع. والسّجع في اللغة العربية يُعدُّ من مميزات البلاغة الفطرية التي تجري على الألسنة. واللغات بعمومها لها خصوص جرس شبيه السّجع تذكره الأمثال والحِكم والخُطب، ولها دورها في التأثير على العقول والقلوب.

السّجع أحيانا علامة من علامات رقة الأسلوب ونصاعته، ورونقه وجزالته، وكلما كانت الألفاظ المسّجوعة ذات رنين، ومعني كريم، وأناقة وحسن ترنيم، فإن النفس الإنسانية تشتاق إلى سماعها، والأذن ترتاح إلى إيقاعها. 

المفهوم اللغوي للسّجع نذكره بتصرف لأبن منظور في لسان العرب أن؛ سَجَعَ يَسجَع‘ سَجعًا بمعنى أستوى وأستقام، وأشبه بعضه بعضاً. والسّجع كذلك هو الكلام المُقفى، والجمعُ أسّجاعٌ وأسّاجيع. أما سَجَّعَ تَسجيعاً فيأتي إذا تكلم أحدهم بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. والسّجع هو لون فني يعمد إلى ترديد قطع نثرية قصيرة، مسّجعة ومتتالية، تعتمد في تكوينها على الوزن الإيقاعي أو اللفظي، وقوة المعنى، فمن مميزاته أنه يأتى؛
محكم البناء، جزل الأسلوب، شديد الأسر، ضخم المظهر، ذو روعة في الأداء، وقوة في البيان، ونضارة في البلاغة. لغة السّجع تمتاز بشديدة التعقيد، كثرة الصنعة، كثرة الزخارف في أصواتها وإيقاعها لذلك فالنثر المسجوع يأتي في مرحلة النضج.

القرآن الكريم بلغت السّجعة فيه من البلاغة منتهاها، وتنزل على قوم كانت الفصاحة أقصاها، والإعجاز البياني تناهى مداها، وهذا الإعجاز ترتله في معظم الآيات، حيث تجد كلّ كلمة قد وضعت في مكانها، وكلّ حرف قد صادف موقعُه. أقرأ مثلاً سورة الرحمن  وأسترسل الحدر على السجية، تتفتق بالأمعان جمال عرضها، وتناسق أفكارها، وتسلسل معانيها، ثم أرجع البصر كرتين كيف بدئت، وكيف خُتمت، وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت، وكيف تلاقت أركانها وتعانقت، وكيف أزدوجت مقدماتها بنتائجها، ووطأ أولاها لأخراها.

السّجع عند الجاحظ (159-255)هـ أنه لون من ألوان التعبير الجميل، لذا فقد أهتم به كثيراً، وأفرد له في كتابه البيان والتبيين بعض الأبواب، نوه فيها بأثره في الكلام، وتأثيره في النفوس، وأورد نماذج شتى له، عرض في ثنايا حديثه عنه إلى أمور متصلة به، وأبرز  الآراء المختلفة في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم منه، وعلل كراهية الناس للسّجع  بأنه كان أسلوب الكهانة عند العرب القدماء ولغة وثنيتهم، يحاولون به تضليل الناس والتأثير عليهم فقال؛"وكان الذي كره الأسّجاع بعينها، وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة أن كهانة العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رَئـيًّا من الجن مثل حازي جهينة، وشق, وسطيح وأشباههم، وكانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول أحدهم؛ والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعةٌ ببقعاء لقد نفَّر المجد بني العُشَراء، للمجد والسناء". فوقع النَّهى في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العلة زال التحريم.

يقول ابن رشيق القيرواني (390-463)هـ ؛ وكان كلام العرب كلّه منثوراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم الأخلاق وطيب أعراقها، وصنعوا أعاريض جعلوها موازين للكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً، فلما أستقر العرب، وأجتمعوا بعد تفرق، وتحضروا بعد بداوة، وأجتمع لهم من سمات الحضارة وثقافة الفكر، وتنظيم الحياة، ما جعلهم يشعرون بحاجتهم إلى كلام مهذب، وأسلوب رشيق، وفكرة مرتبة، فكان النثر المسّجوع وسيلتهم في ذلك.

السّجع ليس إفراز تقهقر تاريخي، بل أحتضنته العرب قبل الاسلام، وهو اُسلوب أدخله القرآن وجوامع الكلم من قول سيد الأنام، بل كان في العوالي من القرون الأُولى في التاريخ وببطنِها ذروة الدولة الأندلسية، ويبقى هناك في القديم والحديث من يتنطع ويتنمق سجعا في التلفظ، لا يلامس الذوق وفيه اثقال على السامع وهذا مذموم. التنطع في التلحين والتطريب والتشدّق في مخارج الحروف نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله؛ هلك المتنطعون، وقال؛ أبغض الناس إلى الله المتشدّقون والمتفيقون.

برز السجع المتكلف بوشيه وزخارفه المصطنعة اللفظية من بعد القرن الرابع للهجرة، حين دخلت الأعاجم من الفُرْس وغيرهم. زادوا في تحاسين النثر معايِب كرقعة نسيج أو بُسط تزويقها سمج. طال هذا بعض مقامات  الهمداني وأبو القاسم الحريري، صنعوا قصص قصيرة فيها سّجع غريب مثل ما وصف الحريري بليغا حين وقف يتكلم مع الناس فأُعجب به "الحارث بن همام" إذ سحرته بلاغته ولم يكن هذا البليغ إلا ذا الحيل الكثيرة، وهو أبا زيد السروجي بطل المقامات الحريرة، وقد جاء وصف الحريري لبلاغة ذلك البليغ بقوله:
"يطبع الأسّجاع بظواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه، فجاءت كل سجعة من الجملة الأولى تقابلها سجعة من الجملة الثانية في أربع سجعات متواليات متطابقات". وهذا ليس بنثر العرب الخالي من الأصطناع.

ختاما 
بدائع الفصاحة ومحسنات اللفظ هي بمثل هذا القول؛ خذ البلاغة وأمشط لها شعرها، لا زيادة ألفاظ لا مُبرر لها، أو مُسوغ لذكرها، والحذر من كسر عنقها.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .