+A
A-

لحن التماثيل

وصلت الصالة الثقافية وأنا أحلم أن أرى عملا مسرحيا يعجبني، فشاهدت ما أعجبني أكثر مما تمنيت أن يعجبني، طاهر محسن مخرج بحريني متمكن يحرك أدواته على المسرح بمخيلة تطفو فوق كل بحر جميل، وعندما أقول أدواته فأقصد بها كل قطعة من الديكور والإكسسوارات والموسيقى والمؤثرات الصوتية والإضاءة ومن يعمل خلف الكواليس صامدا ومستعدا لكل تغيير وإبهار يحدث على الخشبة بإدارته وأمره، طاهر محسن رأيته مخرجا مسرحيا يمتاز بقيادة فذة، يجمع شتات النص وأهدافه وما يعنيه في بوتقة أنجبت مسرحية جميلة شاهدناها يوم الخميس بتاريخ 1 نوفمبر 2018 على مسرح الصالة الثقافية.

مسرح أوال وضع ثقته في الفنان طاهر محسن المخرج الذي حظي بتجارب كثيرة ناجحة وكلفه بإخراج هذا العمل المسرحي (لحن التماثيل) فترك بصمة ثرية في واقع المسرح البحريني وفي عين وذاكرة المشاهد الذي حضر خصيصا لمشاهدة هذه المسرحية وكذلك للحركة المسرحية في مملكة البحرين، وكعادته أبدع في توظيف كل كلمة في النص المسرحي على لسان الممثل الذي اختاره لدوره المحدد ولم يترك للمشاهد مجالا أو فرصة يتنفس فيها أثناء العرض، وهذا ما يميز العروض الناجحة لأنها بصمة تنوير فني مسرحي ورؤى جميلة من عمق خياله.

لحن التماثيل سمعناه من جميع الفنانين المشاركين على خشبة المسرح ومن كان خلفها، فبدأنا مع الفنان الجميل حسن العصفور صاحب القدرة الاستثنائية في تجسيد دوره كجندي مختل ومعتل ومصاب بجنون العظمة بالرغم من صغر رتبته وحقارة مركزه وهو الطائر الذي حلق بنا وعشنا معه في أجواء أحداث المسرحية، فحرك في هذه التماثيل كل طرف جامد بأجسادها وأثار في داخلهم ضجة وفحيح الأفاعي وذئاب الليل وغزو النمل وهم يطلبون حقوقهم، رأيناه يعزف على أوتار النص المسرحي دون قيثارة ولكن بريشة اسمها الجسد، بروعة أدائه، ثم يلتهب بنار قهره وامتعاضه بسبب حياته البائسة؛ لأنه الجندي الصابر المهمول العنيد الذي يوجه مجموعة من المواطنين حوله بأوامر عسكرية لا تدخل فيها الرحمة ولا الإحساس الإنساني، أغاظ الكل ثم حاول تحطيم الكل بالرغم من انه محطم حتى بدا كتمثال مثلهم تماما امتزج مع البقية، الفنان حسن العصفور كعادته أنار الظلام في مسرحية كتبت في عتمة.

أما الفنان خليفة العريفي فدخل في العرض المسرحي هامة كبيرة أضاء فيها شموع الفنان المخضرم بين جيلين بالدور الذي جسده ككاتب وأديب يحمى ويطالب بحقوق الأدباء والمفكرين بشراسة عن كيانه وحركته الأدبية التي أرادت السلطة أن تلغي دورها من الوجود، الفنان العريفي عندما تسمع حواره وهو علي خشبة المسرح يمثل يتملكك إحساس وكأنك تسمع نغمة انبعثت من قيثارة ولدت على خشبة المسرح لوضوح حواره ووصوله إلى أذن المشاهد بحرفية متناهية، لأنه فنان يدرك تماما أن التمثيل أمام المشاهد علاوة على الإيماءة والحركة والغمز واللمز يرتبط بالصوت ووضوحه، وكثيرا ما نكتشف أن بعض المخرجين وكأنهم لا يؤمنون بمخارج الحروف عند الممثل، ولو مزجنا إبداع المخرج طاهر محسن تحدى خليفة العريفي في هذا العمل المسرحي لاستنتجنا انهما وجهان لعملة واحدة مع ندرة أعمال خليفة العريفي المسرحية، ول ننكر أنهما بمثابة الجناحين اللذين حلقا بالمسرحية.

الفنانة نورة عيد ممثلة صاعدة واعدة جميلة في أدائها ورائعة في تكوينها الجسدي وكذلك قوة حركتها على الخشبة وحضورها، أرجو أن تطور نفسها بالتقرب اكثر إلى عناصر ومكونات المسرح الابداعية، الفنان صادق عبدالرضا رأيناه يؤدى دورا تمسك به بقوة وقريب من الدور الاستعراضي ولم يخفق أو يقل مستواه في أدائه على الخشبة، رأيناه يعيش داخل عمق شخصيته المرسومة له بقوة وأعجبني اهتمامه البالغ بمكونات الدور الذي لعبه كفراشة تتنقل بين عناصر التمثيل، واستطاع أن يلفت الأنظار كما انه رسم له قاعدة لمستقبل واعد جدا.

حسين العصفور هذا الممثل الهادئ بعباراته التي تلتصق بالذاكرة فليس الكرسي هو البطل ولكنه هو الذي حرك في الكرسي البطولة، حسين العصفور تراه على الخشبة ثاقب النظر يدرك قوة دوره حتى لو كان محدود التطبيق على الخشبة وهذا طبع الممثل الواعي في أداء دوره؛ لأنه يرتكز على قاعدة انطلاقه في الحوار من خلال مراقبته ومتابعته لتمثيل الآخر والاستعداد لمفتاح حواره في لحظة لا تفوته. الفنان حمد عتيق جوكر العمل المسرحي بل في جميع المسرحيات التي يشارك فيها فأينما يضعه المخرج يتميز، لديه حضور وكاريزما بضخامة جسده وصوته الحاد الذي يصل صداه إلى عمق قلب المشاهد، وللمثلين الآخرين أدوار لعبوها بمثابة رياحين عطرة امتدت من سطح الخشبة إلى طول وعرض الصالة فألهبت صدورنا انتعاشا بأدائهم المميز. لحن التماثيل على جدار كل قلب يهفو ويحب أن يرى عملا مسرحيا متفوقا مثل هذه المسرحية التي بناها المخرج مع الممثلين خير بناء، ويبقى أن نقول إن الفنان المخرج طاهر محسن هو قناص النصوص الجميلة، هنيئا لمسرح أوال هذا العمل المسرحي الذي ترك بصمة لها تأثيرها الفني والإبداعي بمجرى العروض المسرحية المتميزة في مملكة البحرين.

 

بقلم: حمد الشهابي