+A
A-

يوسف إنجنير... أول حفار للمياه الجوفية بالخليج

نقل عمال الشركة الأميركية لبناء مصفاة النفط في الخمسينات.

في الكويت خرج الغاز عند الحفريات ولا أحد يعلم قيمته

إنجنير علّم عمانيين قيادة السيارات وأقام مصنعا للثلج

حفارة إنجنير كانت تجوب الخليج بحثا عن المياه العذبة

أول وزير سعودي يوقع عقدا مع يوسف إنجينر

 

قبل عصر النفط والنهضة، وبالتحديد في ثلاثينات القرن الماضي، كانت دول الخليج تعتمد على المياه الجوفية لسد احتياجاتها، وحينها كان يوسف عبدالرحمن إنجنير (1912- 1991) عامل على حفارة ( آلة حفر آبار مياه) تابعة للإنجليز، لكن القدر كان يخفي لهذا الشاب العصامي حينها الكثير من الازدهار والتطور. وعندما أطلق عليها الإنجليز لقب “أنجنير” (المهندس)، كان اعترافا منهم بالمستوى المتقدم الذي وصل إليه كأول حفار خليجي متخصص في مجاله، ليبقى هذا اللقب في عائلته.

رحل مؤسس مجموعة يوسف عبدالرحمن إنجنير عن دنيانا الفانية في العام 1991، وله من الأبناء ستة، وهم: علي وخالد ومحمد ونبيل وعادل وصلاح إلى جانب عدد من البنات، الذين واصلوا المسيرة الحافلة للراحل في خدمة الاقتصاد الوطني  بمختلف الاختصاصات والمجالات.

“البلاد” التقت خالد يوسف انجنير، وهو الرئيس التنفيذي ونائب رئيس مجلس إدارة المجموعة للحديث عن انطلاقة المجموعة، التي أصبحت ذائعة الصيت، تضم عددا من الشركات المعروفة سواء التابعة بشكل كامل أو جزئي للمجموعة، مثل الشركة الوطنية للنقليات، وهي أكبر مؤسسة نقل ركاب في المملكة، وشركة “نتس” للتجهيزات صاحبة عدد من الوكالات من بينها “تاتا” الهندية، وتعمل في التزويد بالمعدات الصناعية والتجارية والتشييد، وشركة “فوسكو” المتخصصة في التموين والأغذية.

 

البداية من الثلاثينات

يسرد إنجنير الابن (خالد) مسيرة والده الحافلة بالكد والمثابرة والعمل المضني، إذ بدأت حياة المؤسس يوسف عبدالرحمن إنجنيز المهنية في الثلاثينات في العمل مع الإنجليز على آلات الحفر، وكان حينها البحريني الوحيد ضمن طاقم الحفر.

وعندما أحيل المهندس الأجنبي إلى التقاعد في العمل على آلة الحفر والعودة إلى بلاده، لم يكن أمام الإنجليز خيار سوى عمل اختبار  بين العمال لاختيار أفضلهم لإدارة مكينة الحفر، وكان الوالد أحد الذين دخلوا المنافسة إلى جانب هندي وباكستاني كانا يعملان على الآلة نفسها، إلا أن الوالد بخبرته تفوق عليهم، واجتاز المنافسة ليتم اختياره للإشراف على العمل.

وحين كان الإنجليز يسألون عن يوسف عبدالرحمن، يقولون “أين هو المهندس” باللغة الإنجليزية، ومع اعتياد الإنجليز بمناداته بالمهندس لسنوات، أصبح الجميع يطلق على يوسف عبدالرحمن بـ “أنجنير”، ليصبح لقبا للعائلة.

وبعد عدة سنوات، اشترى  خليل إبراهيم كانو، حفارة لحفر آبار المياه، واختار الوالد  يوسف إنجنير للقيام بتشغيل ماكينة الحفر. ومع مرور سنوات الخبرة الطويلة، أخذ الوالد خطوته الكبرى في الستينات ليشتري حفارته الخاصة ويعمل عليها، قبل أن يضيف إليها أخرى ويصبح ممتلكا لحفارتين.

وقبل اكتشاف النفط، كان الوالد يتنقل بين دول المنطقة لحفر آبار المياه العذبة، إذ كان شيوخ البحرين يبعثونه إلى دول الخليج مثل الكويت والسعودية وعمان والإمارات لحفر آبار المياه.

غاز في الكويت بدلا من المياه

وفي الكويت على سبيل المثال، لكم يكن الوالد يجد أحيانا مياه جوفية، فحين يقوم بالحفر تخرج غازات من الأرض، وذلك بعد حفر مسافات قصيرة فقط، عندها كان العمال يلثمون وجهوهم؛ كي لا يستنشقوا هذه الغازات، فهم لا يعلمون أنها غازات أصلا، وعلى ما يبدو هو مؤشر بوجود نفط، ومكمن ثروة تسبح فوقه دول الخليج، سيعرفه سكانها مستقبلا، وهو ما حدث بالفعل.

اتجه يوسف عبدالرحمن إنجنير كذلك إلى سلطنة عمان، وقام بحفر المياه في الجبل الأخضر، حيث تم تفكيك ماكينة الحفر ونقلها على الحمير لتصل إلى قمة الجبل، ليتم لاحقاً إعادة تركيبها، والبدء بالبحث عن المياه.

في سلطنة عمان، بقي الوالد لفترة طويلة هناك، ومن واقع خبرته في العمل الهندسي والآليات، قام بتركيب مصنع للثلج للعمانيين، كما علم عددا منهم قيادة السيارات.

جابت حفارة يوسف إنجنير أقطار دول الخليج من جنوبها إلى شمالها، إذ انتقل بعد ذلك إلى أبوظبي، والتقى حينها المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والمرحوم الشيخ شخبوط، حيث طلب منه البحث عن المياه، لكنه لم يجدها هناك، إلا أن الوالد واصل البحث عنها ليعثر عليها هذه المرة في منطقة العين، فكانت أخبارا سارة للإخوة الإماراتيين، كيف لا والمياه عنصر نفيس في الستينات بالمنطقة، إذ ذكر أنه كان يتم بيع جالون المياه بنحو 18 روبية في عصر ما قبل النفط بالخليج.

 

عقد مع أول وزير سعودي

واستمرت مسيرة حفر آبار المياه التي خطها يوسف عبدالرحمن إنجنير لتصل إلى المملكة العربية السعودية، فقبل ثمانين سنة، كانت لدى السعوديين ماكينة حفر، ويريدون تركيبها، فقام أنجنير بعملية التركيب والبدء بحفر المياه. ووقعت الحكومة السعودية آنذاك من خلال أول وزير سعودي، وأول وزير للمالية حينها، وهو عبدالله بن سليمان الحمدان، عقدا مع يوسف أنجنير، يحصل بموجبه على راتب شهري قدره 300 ريال على أن يقوم الأخير بجلب عاملين من البحرين وتسدد الحكومة مبالغ أجورهم ومعيشتهم.

وبحسب شروط العقد التاريخي الموقع، كان ينص الاتفاق على أنه إذا لم يتم اكتشاف المياه خلال عملية حفر الآبار، فأنه ليس من حق الوالد المطالبة بأجره الشهري، ولحسن الحظ نجح الوالد في العثور على المياه في الخبر والدمام والإحساء.

وقد قام الوالد بتدريب طاقم حفر من السعوديين للقيام لاحقا بأعمال الحفر بعد انتهاء مدة العقد مع الحكومة السعودية.

 

نهاية عصر حفر الآبار بالستينات

بعد عودته للبحرين، استمر يوسف إنجنير في أعمال حفر الآبار الارتوازية حتى منتصف ستينات القرن الماضي، إذ قام بحفر غالبية الآبار في مختلف مناطق البحرين.

وفي بداية دائرة إسالة المياه في البحرين، أمر المغفور له بإذن الله تعالى الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة مطلع الستينات، بأن يتم حفر عين في كل قرى البحرين لتوفير المياه، وحينها لم تكن هناك مياه في المنازل، حيث يتم نقلها بطريقة يدوية، فقام الوالد بحفر العيون في كل قرية مع تشييد الخزانات والمرافق التي تتيح التزود بالمياه ومن ثم نقلها للمنازل، وكانوا يستعينون برافعة “بابكو” لرفع الخزانات لمستويات عالية من أجل ضخ المياه.

وقد تم إنشاء هذه المشروعات في جميع قرى البحرين تقريبا، وكان يتم تعيين حارس من كل قرية يعينه مختار القرية للإشراف على مرافق المياه.

وقد تولت الحكومة بعد هذه الحقبة، عمليات الحفر من خلال البلديات، لينهي بذلك عهد عمليات الحفر الذي بدأه يوسف إنجنير واشتهر به بين دول الخليج.

وعلى إثر تولي الحكومة لأعمال الحفر، قام يوسف إنجنير ببيع معداته وبعض هذه المعدات اشتراها أصحاب أعمال في السعودية.

 

شركة المواصلات

وعلى الرغم من أن حفر المياه كان هواية وشغفا ليوسف إنجنير، إلا أن نشاطه التجاري تشعب أيضا، إذ أسس لنشاط النقل والترحيل الذي بدأ بسيطا ليتوسع شيئاً فشيئاً، فكان ينقل العمال إلى مواقع العمل في مصفاة البحرين لشركة KCC وفاستريلر، ووقع عقدا مع شركة أميركية في الأربعينات يقوم بموجبها بنقل العمال إلى موقع المصفاة التي كانت في مرحلة البناء والتشييد حينها.

خالد إنجنير على خطى أبيه

يقول خالد (أنجنير الابن)، أنه كان الإبن الوحيد الذي دخل مجال الحفر إلى جانب والده، حيث بدأ في العمل على الحفارات منذ أن كان في 16 سنة من عمره. ويتذكر خالد أن أول بئر قام بحفره كان لصالح أحمد بن يوسف فخرو.

وكان إنجنير الأب يكلف ابنه بأعمال الحفر بعد انتهاء فترة اليوم المدرسي حتى المساء، قبل أن يعطيه حفارة للإشراف عليها، إذ كانت لدى الوالد حفارة أخرى يشرف عليها شخص آخر.

ويتذكر إنجنير الابن أن أعمال الحفر تتم بموجب ترخيص من الحكومة، كما كان أحد موظفي “بابكو” يرافق عمليات الحفر؛ لكي يأخذ عينات من التربة تساعد الشركة في معرفة إمكان وجود النفط.

 

دخول الأبناء في السبعينات

بحلول السبعينات، واصل أبناء يوسف عبدالرحمن إنجنير مسيرة والدهم، وتولوا الأعمال من خلال تأسيس شركات جديدة وتنويع نشاط المجموعة لتدخل في مجالات جديدة مثل الصيانة والمعدات والسيارات والخدمات الهندسية.

وقبل وفاته، قام يوسف عبدالرحمن إنجنير وأبناؤه بتأسيس شركة قابضة باسمه، لتضم عدد من شركات ومساهمات الأبناء فيها. وتم تأسيس الشركة الوطنية للنقليات التي تعمل في خدمة النقل لصالح شركة “بابكو” منذ الثمانينات، كما تعمل على نقل طلاب مدارس وزارة التربية والتعليم منذ قرابة الأربعين عاما، حيث تم تأسيسها في السبعينات كأول شركة متخصصة في النقل، قبل أن يتم توسعة خدماتها لتشمل التنظيفات والصيانة، وغيرها.

كما تم تأسيس شركة “Netts” التي تقدم الخدمات التجارية والصناعية إلى جانب تزويد المعدات والسيارات، إذ تملك مجلات تجارية متنوعة.

وكانت شركة يوسف عبدالرحمن إنجنير أول من أدخل الحافلات الهندية “تاتا” إلى الخليج منذ منتصف الستينات، وساعدت الشركة في نشر علامة الشركة في المنطقة. كما دخلت الشركة في مجال الأغذية من خلال شراكتها مع “ترافكو” لإنشاء مصنع “أوال” للألبان حاليا، وتم تأسيس شركة “فوسكو” للصناعات الغذائية في الثمانينات، إذ تم تزويد المقاصف بالأطعمة قبل أن تتوسع من خلال تشييد مصنع للمواد الغذائية والمشروبات.

 

خالد إنجنير وتجربته العملية

يروي خالد إنجنير مسيرة عمله مع الشركة، والتي بدأها منذ طفولته مع والده في عمل حفر آبار المياه، ثم درس الهندسة الميكانيكية في المملكة المتحدة، ليساهم بخبرته الهندسية في تشييد أول مصهر لشركة ألمنيوم البحرين في العام 1973 كأول مهندس يعمل في “ألبا”.

وفضل خالد التفرغ بعد العام 1975  للعمل مع والده الذي تقدم به العمر، خصوصا أن تلك الفترة شهدت طفرة اقتصادية كبيرة وارتفاع في أسعار النفط، وأصبح المجال أرضية خصبة للشركات من أجل النمو والازدهار.

 

مستقبل الشركة العائلية

يبدي خالد إنجنير تفاؤله بالمستقبل، ورغم كون الشركات العائلية تواجه صعوبات في البقاء مع الجيل الثالث وما بعده، يرى إنجنير الابن أن الشركة تواكبت مع هذا الوضع، بترتيب هيكلة مناسبة للإدارة ومستقلة.

وبين أن الشركة تعد حاليا لتسليم الجيل الثالث الإدارة، بحيث تكون الشركة القابضة لديها الادارة بشكل مستقل ولا تتأثر بعملية تغيير الملكيات. وأشار إلى أن المجموعة استعانت بإحدى الشركات الاستشارية لوضع الهيكلة اللازمة التي تضمن سلاسة انتقال المجموعة من جيل لآخر.

ومع التاريخ الحافل لشركة يوسف عبدالرحمن إنجنير، تكللت المسيرة بعدد من الأعمال الخيرية داخل البحرين، إذ يلخص خالد مسيرة والده بالقول “ما أؤمن به أن التوفيق من الله، وأن الإنسان حين يعمل في طريق الخير، فإن الله سيوفقه بالتأكيد، وسيحصل على الخير”.