ذكاء حاد مع سطحية شديدة، هذا هو ملخص شخصية تيودور هرتزل (1860 - 1904) مؤسس الحركة الصهيونية، فكيف استطاع ذلك الشخص أن يصنع فكرة الدولة؟ لعل السبب أنه عرف من الذي يحكم العالم؟ أو طبقا لقوله: في باريس تعلمت كيف يدار العالم؟ فسيرته تشبه حياة ملايين اليهود الذين عانوا من الاضطهاد وفقدان الهوية رغم تعددها ما بين (ألمانية، مجرية، يهودية، مسيحية).
التحق الطفل هرتزل بمدرسة يهودية أربع سنوات ثم انقطعت علاقته بالتعليم اليهودي، ذهب إلى مدرسة مسيحية بروتستانتية وعمره 15 سنة، حيث تلقى تعليما مسيحيا. الحقيقة أن هرتزل كان صهيونيا يرفض التقاليد اليهودية، فلم يختن أولاده، كما لم يكن مؤمناً بالمسيحية، ويميل إلى مذهب اسبينوزا ونزعته الحلولية التي توحد بين الإله والطبيعة. حصل على الدكتوراه من جامعة فيينا وعمل بالمحاماة مدة قصيرة مفضلا أن يكرس حياته للصحافة والأدب حتى وصل لرئاسة تحرير القسم الأدبي عام 1895 في أكبر صحيفة نمساوية وظل كذلك حتى وفاته. كتب مسرحية “الجيتو الجديد” التي تحكي عن معاداة اليهود في الغرب، يقول على لسان البطل: يجب الخروج من الجيتو العقلي المضروب حولنا رغم استحالة ذلك. البطل هنا يشبه هرتزل نفسه وقد حاول الاندماج في الحضارة الغربية، ترك تراثه اليهودي لكنه تعرض للتمييز العنصري والسخرية، لم يكن هرتزل موفقا في زواجه أيضا بسبب ارتباطه الشديد بأمه، وإصابته بمرض جنسي جعله يتنقل بين عدة مصحات للاستشفاء. ملامح سيرة عادية ليس فيها ما يبرر النجاح الكبير في فكرة إنشاء الدولة اليهودية، فكيف حدث ذلك؟ اختمرت فكرة الدولة في رأس هرتزل سنة 1895 وقام بتسجيلها في أسلوب بسيط في كتيب صغير من 65 صفحة بعنوان “دولة اليهود”.

أنجزه خلال خمسة أيام، قال فيه: إن الدولة اليهودية ليست حلا وحسب، لكنها الحل الوحيد الممكن للتخلص من عداء اليهود واضطهادهم في أوروبا. لافتاً إلى أن معاداة اليهود حولتهم إلى شعب واحد “إن المصائب تربطنا وتوحدنا”.
نجحت فكرة هرتزل لإقامة الدولة لأنه عرف كيف يخاطب الغرب الاستعماري، فإذا كان الشعب اليهودي منبوذا فإنه اقترح توظيفهم لصالح أية دولة استعمارية تتبنى المشروع الصهيوني لإنشاء الدولة اليهودية.
الغرب الأوروبي كان قد بدأ الزحف الاستعماري على الشرق بحثاً عن أسواق جديدة ومواد خام لمصانعه عقب الثورة الصناعية، وجد في فكرة هرتزل الحل: سوف يتحول اليهود إلى عملاء للدولة الغربية التي ستمنحهم السيادة، كما سيكون اليهود بمثابة حائط الصد لمواجهة الهمجية العربية. “يتوجب علينا أن نبقى على توافق مع أوروبا التي ستضمن وجودنا بالمقابل “. نجاح فكرة هرتزل لإقامة الدولة اليهودية اعتمدت على عقد غير مكتوب مع أوروبا أطلق عليه هرتزل العقد الصامت بين الغرب وإسرائيل.

* مدير تحرير “الأهرام”