من بين القضايا ذات الأبعاد الفكرية والسياسية، بل الاقتصادية والآيديولوجية، والتي تتقاطع مع تفكيرنا في بداية العام الجديد، تلك المتعلقة بالواقع العربي بين الأصالة والحداثة، وهل يتحتم علينا أن نغلق أنفسنا على دوائر التراث الحضاري، ونخاصم الحداثة الغربية غالبا في منشأها، أم أن نوائم في وصفة سحرية بين الأصالة والحداثة في دروب حياتنا اليومية؟
في مقدمة الفلاسفة العرب المعاصرين الذين شاغبوا هذه الإشكالية، الفيلسوف المصري الدكتور زكي نجيب محمود، وذلك قبل نصف قرن، بتساؤلات عن التركيبة العضوية التي يمكن أن يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، لنكون بهذه التركيبة العضوية عربا ومعاصرين في آن، ولكن كيف؟ ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلف لنا الأقدمون؟ ثم ما الذي نأخذه، وما الذي نتركه من هذه الثقافة الجديدة التي تهب علينا ريحها من أوروبا وأميركا كأنها الأعاصير العاتية؟ جرت هذه التساؤلات على ذهن المفكر الكبير قبل نصف قرن، ويومها لم تكن طروحات وشروحات العولمة قد سادت، كما أن ثورة المعلومات والاتصالات لم تكن قد انفجرت بعد، وقد كان العالم وقتها مقسما آيديولوجيا بين فسطاطين وحلفين، وارسو والأطلنطي، أي أن الأجواء كانت تدفع إلى سياقات من معنا ومن علينا، ومع ذلك فإن مساءلة الأيقونات كانت قد ملكت عقل د. زكي نجيب محمود منذ وقت بعيد.
وسط هذه الحيرة يقر الفيلسوف الكبير بأن عبارة للسير "هربرت ريد"، مؤرخ الفن الإنجليزي، الشاعر والناقد، الأديب والفيلسوف قد انتشلته من وهدة التضاد: "إنني لعلى علم بأن هناك شيئا اسمه التراث، ولكن قيمته عندي هي في كونه مجموعة من وسائل تقنية يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون". كانت الكلمات السابقة موقفا مفتاحيا وهنا لاح في الأفق الجواب على السؤال العضوي: "ماذا علينا أن نأخذ من تراث الأقدمين؟"، والجواب هو نأخذ ما نستطيع تطبيقه تطبيقا عمليا، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المحدثة، فكل طريقة للعمل اصطنعها الأقدمون وجاءت طريقة أنجح منها، كان لابد من طرح القديمة ووضعها على رف الماضي الذي لا يعنى به إلا المؤرخون.
هل يمكن إعادة بلورة الرؤية الفلسفية المتقدمة عبر كلمات أخرى؟
الجواب نعم، فثقافة الأقدمين أو المعاصرين، هي طرائق عيش، فإذا كانت عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن، أخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفع نفعا عمليا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأميركا.
لم تكن نوازل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين حاضرة على مائدة أفكار الدكتور زكي نجيب محمود في أوائل سبعينات القرن الماضي، ولكن القياس الفلسفي والأخلاقي يعيننا في التفكر والتدبر جهة وسائط التواصل الحديثة على سبيل المثال بخيرها وشرها، أو ما قد يستجد ضمن ثورة الذكاء الاصطناعي القادر على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، وهناك أيضا قضية الانثقاف مع غيرنا من أمم وشعوب العالم، بعد أن تحققت نبوءة عالم الاجتماع الكندي "مارشال ماكلوهان"، تلك التي أطلقها في ستينات القرن الماضي عن القرية الكونية، ما جعل الإنسانية فعلا وقولا أسرة صغيرة غير قادرة على عيش ثقافة الإقصاء، بل تمضي مندمجة بطريق أو بآخر، فقد باتت المصائر واحدة، والأقدار عرضة للأخطاء والأخطار عينها، وعلى غير المصدق أن يراجع أزمة جائحة كورونا الأخيرة، والتي لا ينفع معها التطرف أقصى التراث أو الحداثة، إنما المعيار هو خلاص الناس ونجاة البشر من كل شر ومكروه.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية