العدد 5536
الإثنين 11 ديسمبر 2023
banner
كمال الذيب
كمال الذيب
أي مستقبل للغة العربية؟ (2)
الإثنين 11 ديسمبر 2023

في المقالة السابقة توقفنا عند بعض مظاهر “تأزم وضع اللغة العربية” بين أهلها، وتراجع مكانتها في مقابل تضخم تأثير اللغات الأجنبية بشكل مستفز، وكان واضحا بأن ذلك التراجع يعكس تأزم العرب وليس تأزم لغتهم، فالقوي تُهيمن لغته وثقافته، وتتراجعُ لغاتُ الضعيف وتتوارى إلى الخلفِ. ومن الواضح أيضا أنَّ غيابَ الإرادةِ (العربيةِ) لمواجهةِ هذا التحدي بمختلف أبعاده، هو وراء هذا التهديد الذي يؤدي إلى تآكل منزلة لغتنا، وربما إلى اضمحلالها التدريجي، فمن دون توافرِ تلك الإرادةِ لن يتحقَّقَ النهوضُ باللغة ومنزلتها، هويّةً وثقافةً، لتجديد الذاتِ الثَّقافيةِ والاجتماعيةِ لمجتمعاتنا، وتحصينها ضدَّ عواملِ الوهنِ.
إنّ المسألة ليست مسألة لغة فحسب، بل هي مسألة هوية ووجود، فقد أدْرَكَتْ الشعوب المتقدمة أهمية المسألة فاعتبرت لغتها خط الدفاع الأول عن هويتها، وعن ثقافتها، بل وعن وجودها ككل، والتاريخُ المعاصرُ يُعطينا العديدَ من الشواهدِ على صدقِ هـذا الإدراكِ، ولن نذهبَ بعيداً في بيان دورِ الإرادةِ السياسية على سبيل المثال في تكريس استخدام وتوظيف اللغةِ القومية وإحيائِها وتطويرِها، فيكفينا أن نستذكر هنا قصصَ بعض اللغاتِ “الميِّتةِ” التي نجحت الإرادةُ السياسيةُ في إحيائِها، وتحويلها إلى ركن أساسي لهوية مجتمعها، بل ووجودها السياسي والثقافي والاجتماعي، من خلال فرض إلزاميةِ استخدامِها في كافةِ المجالاتِ، ومنعِ استعمال اللغاتِ الأجنبيةِ في المعاملاتِ والإعلاناتِ الرسمية، وإلزاميةِ استخدامِها في جميعِ أماكنِ العملِ وفي العقودِ والمدارسِ والجامعات التي تموِّلُها الحكومةُ، من دون أن يَعنيَ ذلك الحطَّ من مكانةِ اللغات الأجنبية أو حتى من اللَّهجاتِ المَحكِيةِ، أو التقليل من شأنها. المهم أن ما يمكن أن تفعلَهُ الإرادةُ كبير جدا للحدِّ من تراجع مكانةِ اللغةِ القوميةِ، وتعزيزِ منزلتِها. خصوصا أن اللغة العربية سادت لحقبة طويلةٍ من الزمنِ، وكانت لغةَ العلوم والفلسفةِ والفنونِ والأدب والسياسةِ والفكر في مختلف أرجاء العالم. كما أثرت بشكلٍ كبير العديدِ من اللُّغات الأُخرى في الشَّرق والغربِ، بل وكانت ولا تزال إلى اليوم مرجعاً في مجال إنتاجِ المعرفةِ ونشرِها.
كاتب وإعلامي بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .