العدد 5419
الأربعاء 16 أغسطس 2023
banner
دعاء الكروان.. الرواية والفيلم
الأربعاء 16 أغسطس 2023

تُعد رواية طه حسين " دعاء الكروان" التي صدرت 1934 من بواكير الروايات العربية في العصر الحديث، وهي تسبق أول روايات عميد الرواية العربية نجيب محفوظ التاريخية "عبث الأقدار" 1938، و يغلب على الرواية، التي تجري أحداثها منتصف عشرينيات القرن الماضي، التزام مؤلفها بالمدرسة الواقعية في الأدب، بروافدها الفكرية المختلفة، حيث جسّد مؤلفها فيها صورة صادقة من صور المجتمع الريفي المصري الغارق آنذاك في الأُمية والجهل وطغيان التقاليد والأعراف الشعبية البالية، ومنها عادة قتل الفتاة إذا ما تورطت في علاقة عاطفية مع شاب،لغسل عار العائلة أو القبيلة!  
وتتلخص الرواية في عائلة ريفية تعيش في قرية من إحدى بوادي الريف الجبلية الصعيدية، وتتكون من زوج زير نساء ماجن غير مبال بواجباته الأسرية، يتعرض للقتل، فتقرر أسرته  المكونة من الزوجة زهرة وابنتيها هنادي وآمنة الهجرة إلى إحدى مدن الوجه البحري، وفي هذه المدينة عملت هنادي في بيت مهندس الري، الذي خدعها بحُبه الكاذب لتستجيب لنزواته الشهوانية، فيما عملت آمنة خادمة في بيت المأمور.تصارح هنادي اُمها بما جرى لها، فتقرر هجرة المدينة والعودة إلى قريتهم في الصعيد، يحضر شقيقها الذي علِم مسبقاً بأمر هنادي، وفي طريق العودة إلى القرية يرتكب جريمته ليلاً بقتلها، تهرب آمنة من القرية عائدة للمدينة وتبيّت  النية للانتقام لأختها الذي قضى مهندس الري وطره منها وتركها تواجه مصيرها البائس الذي أنهى حياتها، فتخطط للعمل عنده كخادمة، فتنجح خطتها وتمارس تعذيبه نفسيا عند محاولات تقربه منها،ثم تتحول تلك المحاولات من مبتغى شهواني إلى حٌب حقيقي تعجز آمنة نفسها عن مقاومته،حيث تعيش صراعاً نفسياً بين مواصلة تعذيبه وبين الاستسلام لحُبه الجارف لها الذي اختبرت صدقه، سيما حينما ظهرت عليها الصدمة العنيفة وفضحتها دموعها، إثر إشعاره لها بنقله إلى القاهرة، وعرض عليها  الانتقال  معه إلى بيت أهله في العاصمة لتكون في خدمته، ووافقت على ذلك،وهناك حاصرها بحقيقة حُبها له الذي حاولت إخفاءه طويلاً.( دعاء الكروان، دار المعارف، الطبعة الرابعة والعشرين، بدون تاريخ).
والحق ما كان لطه حسين في هذه الرواية-وهي رواية حقيقية- أن يبدع في نسج حُبكتها؛ لولا أنه عاش وخبر جيداً مجتمعات الصعيد،هو الذي وُلد في إحدى قراه،ومن ثم فقد تمكن من تصوير وضع المرأة الريفية المضطهدة أبدع تصوير، وهو عندما وصف جمالها بدا كما لوكان بصيراً، فهو يصف مثلاً ابنة المأمور: " كانت حلوة النفس، رضية الخلق، مشرقة الوجه دائماً، مبتسمة الثغردائماً، وديعة النفس، رقيقة الحاشية"ص 18. ويصف النظرة الشهوانية لمهندس الري حين معاينته آمنة  للعمل كشغّالة في منزله بهذا الوصف الرائع على لسان آمنة كما هو في الواقع:" … يحدق النظر في وجهي تحديقاً طويلاً، ثم يُفصّل النظر إلى جسمي طويلاً، كأنه يمتحن متاعاً يريد أن يشتريه… ولكنه… احتفظ لنفسه ببقية من حياء، فاكتفى بهذه النظرات المتصلة الطوال التي تجرد المرأة من ثيابها تجريداً…". ص 139.  
بعدما نُشرت الرواية لم يدر بخلد مؤلفها البتة أنه سيُطلب منه تحويلها إلى فيلم، وظلت نحو ربع قرن من صدورها 1934 حتى 1959(سنة أنتاج الفيلم) لم يطلب أحد من المخرجين تحويلها إلى فيلم. ولما كان طه حسين، بما بلغه من منزلة أدبية وفكرية رفيعة، مقصداً للإعلاميين للظفر بحوار معه،فإن مخرجي السينما ليسوا أقل منهم طموحاً في ذلك، وهذا ما فعله المخرج الكبير هنري بركات الذي تمكن بلباقته أن يقنع طه حسين بصلاحية الرواية لتحويلها فيلماً بالتعاون مع السيناريست الكبير  يوسف جوهر. والطريف- كما يروي بركات- أن أول من لفت انتباهه لهذه الرواية هو المطرب فريد الأطرش الذي طلب منه أن يمثل في الفيلم دور مهندس الري، وطبعاً أن يغني فيه-كعادته- في بطولات أفلامه،لكن بركات أقنعه بعدم صلاحيته لأخذ دور البطولة فيه.مهما يكن فقد بذل الثنائي بركات وجوهر جُهداً إبداعياً خارقاً في إعادة خلق الرواية لتكون في شكل نص سيناريو، واتفق الأول مع طه حسين على أن تكون للفيلم نهايتان، بحيث تُعرضا عليه بُعيد إنتاج  الفيلم ليختار إحداهما. وتم عرضه في قاعة النيل، بحضور طه حسين و ابنه مؤنس، وكانت النهاية الأولى كما انتهى بها الفيلم: مقتل مهندس الري( أحمدمظهر) الذي افتدى  آمنة( فاتن حمامة)بظهره ليجنبهارصاصة خالها(عبد العليم خطاب) عند إطلاقها.أما النهاية الثانية فهي كما جاءت في خاتمة النص الأصلي للرواية، وكان حسين متردداً في قبول النهاية كما جاءت في الفيلم، لكن ابنه أقنعه بها.وتم توثيق الفقرة الأخيرة من نص الرواية بصوت طه حسين معلقاً على صوت الكروان : " دعاء الكروان! أترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع حين صُرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض". ومثلت الفنانة زهرة العلا  دور هنادي. 
 حقق الفيلم نجاحاً هائلاً، واُدرج ضمن قائمة أحسن مئة فيلم أنتجتها السينما المصرية، ونال المرتبة السادسة في مهرجان برلين للسينما حينذاك. والحال أن الرواية والفيلم ينتصران للمرأة المضطهدة، وخصوصا في المجتمعات المحلية الأشد تخلفاً، ويُعد كلاهما "صرخة ضد التخلف..والقهر" على حد تعبير الناقد السينمائي المصري الراحل علي أبو شادي، في عنوان تحليله للفيلم، وهو  واحد من أفضل التحليلات التي كُتبت عن الفيلم. ومع تقديري الكبير للثنائي بركات وجوهر ،إلا أنني تمنيت حقاً لو كان هذا الفيلم ثمرة تعاون مشترك بين كاتب السيناريو وعميد الرواية العربية نجيب محفوظ وعميد الأدب العربي طه حسين.  

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .