+A
A-

الهوى.. قيد القلوب

إن التجارب هي خير معين على تدبر خطواتك - أيها المتفكر - في هذه الحياة، فمهما قرأت، وتعلمت فإن شعور العجز عن فهم خفايا هذا الكون، وخبايا هذه النفوس، سيبقى يساورك بين الفينة والأخرى، فإنك كلما أقدمت على التجربة، ازددت خبرة، وعمرًا، وأدركت - مع تقادم الأيام والسنون - أن هناك العديد من الأمور لم تكن تستحق منك كل هذا العناء، والتفكير، فإن في التغافل عن سفاسف الأمور، والزلات، لراحة تغنينا عن مكابدة الكثير من المتاعب، والهموم، كما أن في التجاهل لسعادة لا يكاد يدركها إلا الذي اتخذها فنًا يريح فيها نفسه ويستريح، فسبحان الذي كرم الإنسان بعقل جعله آلة معينة له على فهم هذه الحياة.

كم هو شقي من لم يدرك الغاية من خلقه، فجعل قلبَه موصولًا برضى البشر لا برب البشر، تضيق دنياه بابتعاد صديق أو عزيز أو بعدم تحقق ما يريد، وكأنه خلق لهذا الأمر لا غير، ونسي أن النعيم المقيم لا يمكن أن يتيسر إلا لمؤمن تعلق قلبه بالرحمن الرحيم، العزيز القدير، الجبار بقلوب عباده المؤمنين؛ لأنهم هم الموحدون في حبهم إليه، المحبون لكل ما يحبه خالقهم جل في علاه، وللإمام ابن قيم الجوزية حديث نفيس في هذا السياق، فقال (رحمه الله) “وأي حياة أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها، وصارت همًا واحدًا في مرضاة الله؟ ولم يتشعب قلبه، بل أقبل على الله...، وصار الأنس بقربه - سبحانه - هو المستولي عليه”. وإن من أعظم السبل التي يتقرب بها المؤمن إلى خالقه، هما: أداء الفرائض، والتقرب إليه سبحانه بالنوافل، فكيف بعد ذلك كله لا يتحول قلبه من مضغة إلى جنة مقيمة في القلب قبل يوم العرض؟ وكيف لا تشع روحه، وتسكن نفسه، وقد سخر صاحبها جوارحه في طاعته سبحانه، وجعل غاية مناه رضاه لا شريك سواه، فبات صاحب هذا النعيم المقيم يرى الخيرة في كل أمر يصيبه، ويستبشر بالخير مهما ضاق به الطريق، واشتدَت عليه ظلمة الطريق، فنور القلب قد أضاء له الدروب، وأزال عنه الندوب والكروب، وجعله موفقًا ومسددًا راضيًا بتقدير علام الغيوب. فاحذر أيها القارئ، فإن للقلوب قيودًا، إن قيدت بغير مولاها، طرقتها الآفات، وأثقلتها المعاصي حتى يكاد أن يسمع وقع هذه الأغلال البعيد قبل القريب، وإن كل من أحب غير خالقه، وقيد نفسه به ابتلي بفقد من يحبه، فنبي الله يعقوب (عليه السلام) عندما أحب ابنه يوسف (عليه السلام) ابتلي بابتعاده عنه، وأي أمر وكل إليه سبحانه فإنه بإذنه يتحقق؛ لأن هوى النفس متى تمكن من الإنسان أضله، وحبس عقله بما يهوى فلا يكاد أن يبصر غيره هو، ومتى ما تمكن المؤمن من نفسه، وقيد هواه، وحكم عقله، وسيره في مرضاة الله، انشرح صدره، وعاد إلى فطرته، وحطم كل صنم صنعه سلطان الهوى أمامه، وكانت النار عليه بردًا وسلامًا، وصدق الشاعر عندما قال “أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي”، “فيا واهب العقل ومطلق اللسان لا تجعل للهوى على عقولنا سبيلًا”، واجعل حبك هو مرشدنا، ودليلنا إلى جادة الحق، والصواب في جميع أمورنا، إنك لسميع الدعاء.

إسراء عادل جناحي

[email protected]