ليس كل من يرحل يُفتقد، لكن بعض الراحلين، حين يغيبون، كأن الوطن نفسه ينكفئ لحظة صمت. صفية علي محمد كانو، واحدة من هؤلاء القلائل الذين لا يشبهون أحدًا، ولا يخلفهم الزمان بسهولة.
لم تكن الراحلة شخصية عامة عادية، ولم تكن فاعلة خير عابرة، بل كانت امرأة كرّست حياتها لقيمة سامية اسمها “العطاء”، وسارت بها بثبات من دون صخب إعلامي، ولا عدسات تصوير وظهور في وسائل التواصل الاجتماعي، كانت تعمل كما تتنفس: بهدوء، وبلا مقابل.
في زمن كثرت فيه الضوضاء وقلّ فيه العطاء والإخلاص، كانت صفية كانو نموذجًا استثنائيًّا للمرأة البحرينية التي فهمت المواطنة على حقيقتها: مسؤولية لا ترف، وعمل لا شعار. لقد أسهمت الراحلة في بناء أجنحة لمرضى السرطان، ومراكز لكبار السن، وأسست مركزًا للفنون والحرف اليدوية، والقائمة تطول. صفية الإنسان لم تترك بابًا للخير إلا طرقته، ولا مبادرة إنسانية إلا وساندتها، وكانت دائمًا الأقرب للفئات التي قلما يلتفت لها أحد. لقد عرفت البحرين “صفية” كأمّ للقلوب قبل أن تكون سيدة أعمال، وكصاحبة رسالة قبل أن تكون صاحبة مبادرات. لم تتحدث عن التمكين، بل مارسته، دعمت المرأة البحرينية عمليًا من خلال تدريبها، وإفساح المجال لموهبتها، وتشجيعها على ريادة الأعمال. كانت صفية سندًا لجمعيات ومؤسسات لا تُعد، منها جمعية البحرين الخيرية، ومبادرة “ابتسامة” لأطفال السرطان، وفعاليات لا تزال قائمة بفضل دعمها الكريم والسخي والمستمر، وأنا على يقين بأن كرمها طال الكثير من الأعمال الخيرية للمجتمع البحريني من دون الإعلان عنها.
على المستوى الشخصي لم يجمعن بالراحلة الكريمة تواصل مباشر، لكن يكفيني أنني كنت أتابع بإعجاب ما تقوم به من أعمال نبيلة، وأن زوجتي – التي كانت تربطها علاقة وطيدة بها – كانت تنقل لي الكثير من التفاصيل عن حياتها ومواقفها النبيلة ومبادراتها التي لا تُنسى. كما أن رحيلها خلف أثرًا بالغًا في نفوس جميع أفراد عائلتي، لما لها من مكانة خاصة، إذ إنهم يعتبرونها مثل جدتهم، حيث كانت كثيرة السؤال عنهم، بل تحرص على متابعة جميع أحوالهم وحتى كانت تدعوهم لزيارتها في منزلها العامر.
إن الحديث عن صفية كانو ليس رثاءً، بل شهادة حب وامتنان ووفاء. شهادة نقول فيها إن بعض البشر لا يعيشون في أيامهم فحسب، بل يواصلون الحياة في قلوب الناس وأعمالهم، حتى بعد رحيلهم.
لقد ودّعت البحرين امرأة خلدت اسمها لا في الألقاب، بل في المواقف، وفيما زرعته من خير سيبقى صدقة جارية، وأثرًا لا يزول.
رحم الله صفية علي محمد كانو، وجزاها عن وطنها وأهلها خير الجزاء، وأجزل لها العطاء كما أجزلته هي لكل محتاج وضعيف ويائس.
وإن عزاءنا أنها تركت خلفها إرثًا من نور، سيضيء لنا الطريق، حين يعم الظلام.
الخلاصة.. سنرحل جميعًا يومًا ما، لكن ما يبقى هو الأثر لا غير.
كاتب وإعلامي بحريني