والدي وأرجل الـ " غغونوِي" :
اليوم، وأنا أعدّ لمقالتي، استحضرت حوارًا ضاحكًا مع والدي رحمه الله، فرأيته مقدمة مناسبة لموضوع "طعام زيد سم لعمر!".
حكى لي أنه في أواخر الخمسينات أو مطلع الستينات، رافق جدي كعادتهم السنوية إلى بيروت، "باريس الشرق" ومصيف الخليجيين. كانت الرحلة على متن طائرة أرجّح أنها تابعة لـ Air Liban أو MEA قبل اندماجهما عام 1963. الخدمة على الطائرة كانت بطابع فرنسي حتى في قوائم الطعام، تشبه تلك التي تقدمها Air France.
قُدّم لوالدي طبق فرنسيّ بامتياز. سأل عن اسمه، فأجابته المضيفة بانبهار: Cuisses de grenouille... أرجل الضفادع! ومدحت الطبق بحرارة، مشيرة إلى أنه "تجربة لا تُفوّت".كان وقع الاسم صادمًا و مشهد الطبق مقززًا ، واعتذر عن خوض هذه "التجربة !والفرصة التي لا تتكرّر!".
هذا الطبق، وفق ويكيبيديا، من أشهر الأطباق الفرنسية منذ العصور الوسطى. والغريب، فوق كونه مقززًا، قد يكون مرعبًا أيضًا! فالضفادع لا تصاب بتيبس الموت بنفس سرعة الحيوانات الأخرى، ومع إعادة التسخين، قد تبدأ الأرجل بالارتعاش!
تخيّل نفسك في مطعم أنيق، وفجأة تتحرك أفخاذ الـ"غغونوِي" أمامك... أيّ لذة تلك التي تدفع الفرنسيين لاستهلاك ما يقارب 80 مليون زوج من أرجل الضفادع سنويًا، حسب موقع The Local؟ وأن يبقى هذا الطبق "صاملًا" منذ القرن الثاني عشر؟!
الجراد المشوي... "حبة ورا حبة"!
والشيء بالشيء يُذكَر: جدتي – رحمها الله – كانت حتى وفاتها تتلذذ بأكل الجراد المشوي. يبدأ موسمه في الخليج عادةً من يناير حتى أبريل، ويُطهى بعدة طرق: مسلوقًا، مقليًا، مجففًا، أو مشويًا مقرمشًا. وكانوا يفضلون ما يُعرف بـ"المكَن" (أنثى الجراد)، لأنها أكبر حجمًا من "العصفور" (الذكر).
البعض يقول إن طعمه يشبه الربيان، ورائحته أقرب إلى لحم الخروف! وقد يبدو الجراد خيارًا غير مألوف على المائدة، بل وربما "مستغربًا" لدى البعض... لكن له عشّاقه، و"متذوقوه".
ولئن كان مشهد الجراد مقززًا في عيون البعض، إلا أن له قيمة غذائية معتبرة؛ فهو غني بالبروتين ومضادات الأكسدة، ويُعدّ مصدرًا جيدًا لحمض الفوليك، الذي يقي من فقر الدم.
لكن لنكن واقعيين: محبّو الجراد لا يأكلونه طلبًا للفائدة الغذائية، بل بدافع الشغف والذوق. وذاك الشغف قد يبلغ حدّ الابتكار!
فمؤخرًا، ابتكر أحد الشباب السعوديين "برغر الجراد"، يُقدَّم مع الكاتشاب والشطة. من كان يظن أن الجراد سيشقّ طريقه يومًا إلى خبز البرغر؟!
مع الفسيخ: يا تموت يا تعيش!
وإذا كان الجراد قد نال مكانته في الخليج، فإن الفسيخ نال مجده في مصر. يُثار حوله سنويًا سجالٌ لا ينتهي، بين مؤيدٍ يعشقه، ومعارضٍ يحذّر منه، وسيلٌ من التنبيهات الطبية المصاحبة.
لكن المفارقة العجيبة أن المصريين يرفضون شراء سمك البوري الطازج بسعر 150 جنيهًا، بينما هم مستعدون لدفع 500 جنيه في فسيخ نفّاذ الرائحة... أيُّ مجدٍ هذا؟
الفسيخ، لمن لا يعرفه، هو سمك بوري تُحشى خياشيمه بالملح الخشن والشطة والليمون والكركم، ويُملَّح ويُخزَّن (يتخلل) في برطمانات مُحكمة لمدة 10 أيام تقريبًا، حتى يتحوّل لونه إلى الوردي. لكن خلال التخزين، قد يتعرض الفسيخ للفساد، مما يؤدي إلى التسمم الغذائي (البوتيوليزم) المميت . ولهذا، لقّبته الـBBC بـ 'الطبق القاتل الذي يحب الناس تناوله'.
وفي فيلم عسل أسود، يتجلى مشهد يعبّر عن هذه المجازفة الغريبة من أجل الفسيخ، حين اشتكى أحمد حلمي من ألمٍ بعد أكله، فقالت جارته وهي تطمأنه : "الفسيخ ما فيهوش وجع... يا تموت يا تعيش!"
ومع كل ما قيل، يبقى الفسيخ أكلةً "فرعونية" عريقة، يعود أصلها لأكثر من 4,000 سنة، وكان تناوله تقليديًا مرتبطًا بـ"شم النسيم"، فصل البعث والحياة عند الفراعنة.
أما اليوم، فقد تجاوز موسمه الربيعي، وبات يؤكل في أي وقت من العام، بل ويشتهيه عشّاقه كوجبة مفضّلة... أو كترند يتصدر تيك توك!
هل بإمكاننا صنع موروث غذائي جديد؟
يرى باحثون من منطقة أراجون في إسبانيا أن خياراتنا الغذائية ترتبط كثيرًا بهويتنا وقيمنا الاجتماعية، حيث ينجذب الناس لما يعزز انتماءهم ويعبر عن ثقافتهم.
لكن هل يعني هذا أن "نُطبل" لأطباق مثل الفسيخ والجراد، رغم مخاطرهما الصحية والتحذيرات المستمرة؟ وهل من الحكمة الاستمرار في تقليد موروثات غذائية قديمة ، بحجة الانتماء والهوية؟
أرى إن بإمكان كل جيل أن يصوغ موروثه الغذائي الخاص، لا سيما حين تصبح بعض الأطباق والمشروبات المتوارثة أكثر ضررًا من بهجتها.
أزمة أيزنهاور القلبية.. وإدمان السكر :
المشكلة تبدأ حين تُستغل الأزمات لتسويق أفكار، وفرض تغييرات غذائية – سلبية – على مجتمعٍ بأكمله، خاصةً حين تُبنى تلك القرارات على دراسات مضللة، أو على سلطة عالم شهير، أو تُوجَّه من قِبل لوبيات تجارية ومعلنين يهيمنون على عقلية المستهلك.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في أمريكا عام 1955، حين أصيب الرئيس دوايت أيزنهاور بأزمة قلبية حادة. أدت هذه الحادثة إلى موجة ذعر غذائي، تصدّرها عالم التغذية أنسل كيز، الذي قدّم "نظرية الدول السبع"، متهمًا الدهون والكوليسترول بأنها السبب الرئيسي لأمراض القلب.
تَبِعت ذلك حملة وطنية غذائية استُبعدت فيها الدهون، واستُبدلت بالسكر والنشويات. و"قام سوق" حبوب الإفطار المغلّفة بالسكر؛ ففي عام 1956، أطلقت شركة جنرال ميلز وحدها ثلاثة أنواع جديدة: Sugar Jets، وTrix، وCocoa Puffs.
وسرعان ما تبعتها شركات كبرى مثل Kellogg’s وPost، التي أنفقت بحلول أواخر الستينيات ما مجموعه 600 مليون دولار سنويًا لتسويق كل صنف جديد.
والنتيجة؟ جيلٌ مدمن على السكريات: أكثر من 70% من البالغين الأمريكيين اليوم يعانون من زيادة الوزن أو السمنة، و96 مليون شخص – أي واحد من كل ثلاثة – مصابون بمقدمات السكري أو السكري الفعلي.
لكن الحقيقة لم تتضح إلا بعد عقود؛ ففي عام 2016، كشفت مجلة الجمعية الطبية الأمريكية (JAMA) وثائق تُبيّن أن لوبي شركات السكر موّل أبحاثًا مضللة هدفت إلى تشويه سمعة الدهون وتحميلها المسؤولية، للتغطية على مخاطر السكر.
وقد وُصفت لاحقًا بأنها إحدى أكبر حملات التضليل المنهجية في تاريخ التغذية الحديثة.
وأخيرًا: لماذا "طعام زيد سمّ لعمر"؟
هناك مقولة تُنسب لمؤسس علم السموم باراسيلسوس تقول:
«Ce qui est une nourriture pour l'un, est un poison pour l'autre.»
ومقولة أبقراط الذي آمن بـ"الفردانية":
"What is food to one man may be fierce poison to others"
تحمل المضمون ذاته: "طعام زيد سمّ لعمر". وتؤكد جميعها خطأ التعميم في النصائح الغذائية، أو أنواع الحمية، أو العلاجات المعتمدة على الغذاء، وتشجع على البحث والتجربة الفردية لفهم تأثير الغذاء على كل جسم.فهناك عوامل كثيرة تؤثر على فعالية التغذية المخصصة، من أبرزها: الجينات، والتمثيل الغذائي، والميكروبيوم، وأسلوب الحياة.
كما تشير دراسة بعنوان "One man’s meat is another man’s poison" إلى أن ما يحبه شخص قد يثير اشمئزاز آخر، وأن اختيارات الفرد الغذائية هي نتاج معقد يجمع بين التجارب المبكرة، والثقافة، والبيئة المحيطة.
هذه الدراسة – ببساطة – فسّرت لي موقف والدي، وذائقة جدتي، وشغف المصريين بالفسيخ، وولع الفرنسيين بأرجل الضفادع!
نقطة النهاية:
ابدأ بتجربة نظام غذائي، راقب تأثيره ، ودوّن ملاحظاتك.
ثم اعتمد ما يناسبك ، ولا تُعمّم تجربتك على غيرك...
فطعام زيد، قد يكون سمًّا لعمر.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |