+A
A-

"الشاعر بدر بن عبدالمحسن.. معجزة الكلمة"

انتظرت عدة أيام بعد وفاة شاعرنا الكبير بدر بن عبدالمحسن آل سعود رحمه الله، لأخرج من دوامة الضياع وأثبت نفسي في أرض الكلمة لأقول ما أشعر به بعد رحيل الشاعر الفيلسوف الذي أرهق النقاد بقصائده وطاقة اللغة التعبيرية وتوليد الصور والمعاني واستثمار خزين المخيلة الشعرية والبحث عن مناطق شعرية غير مأهولة والتلوين الهائل في الأساليب والصياغات.

عرفت شاعرنا بدر بن عبدالمحسن رحمه الله نهاية الثمانينات، وهي مرحلة كانت بالنسبة لنا كشباب تمثل الملتقى الأول للحب والعلاقات البريئة التي نتقاسم فيها الدموع الهاطلة من الأعين. كنا كمن يبحث عن شيء ويجده في قصائد بدر بن عبدالمحسن، كنا أشبه بالمسافر الذي يقصد مدينته الشعرية على وجه الخصوص دون جميع مدن العالم لكي يجد فيها شيئا عزيزا. ومع مرور السنوات والنضج ودخولنا ملحمة الحياة الحقيقية حيث الأسرة والأبناء، أيضا كنا نتلمس طريقنا لمدينة بدر بن عبدالمحسن الشعرية لنتماثل للشفاء أو الهروب إلى مزارع اللا مكان واللا زمان.


كانت تسحرني عبقريته ومعجزة الكلمة التي دائما عنده تخدم الفكرة وتحرك المشاعر، فهو عندما يستخدم الكلمات رحمه الله يصبح لها لون ومذاق وتتسم كلماته بسمو جمالي، فيكفي المرء أن يستمع الى كلمات أغنية "المسافر" التي كتب كلماتها وغناها المطرب راشد الماجد ولحنها عبدالرب إدريس رحمه الله، سيضيع في عالم الرفاهية الجمالية وسيجد نفسه أمام تمرد غير طبيعي على المألوف اللغوي والاستعارات التقليدية.


"لا تلوح للمسافر، المسافر راح، ويا ضياع أصواتنا في المدى والريح، القطار وفاتنا، والمسافر راح، يلا يا قلبي تعبنا، تعبنا من الوقوف، ما بقى بالليل نجمة ولا طيوف، ذبلت أنوار الشوارع، وانطفئ ضي الحروف، يلا يا قلبي سرينا، ضاقت الدنيا علينا، القطار وفاتنا".


أما أغنية "ليلة لو باقي ليلة" ففيها نوع من الإعجاز اللغوي عبر تفجير ينابيع المخيلة والرؤيا، ومارست أقوى التأثيرات الشعورية والوجدانية على المستمعين. تشعر أن كلمات هذه الأغنية مصنوعة بعيدا عن فهم البشر ومسبوكة ومختلطة بكل معاني الروعة. كلمات ليست ملكا لأحد. فقط لبدر عبدالمحسن الذي حافظ على القصيدة بصفات وملامح خاصة ومتفردة قد لا نجد لها تعريفا على خريطة التعريفات الشعرية، وهذا هو مصدر ميراثه الشعري الذي تخطى الزمان، وإذا كان الشاعر عبدالوهاب البياتي قال ذات يوم، إن الأسطورة لا يستطيع أن يخلقها إلا شاعر عظيم، فإن شاعرنا بدر بن عبدالمحسن رحمه الله قد أعاد خلق القصيدة نفسها من جديد بكل المدلولات الحسية والمعنوية.