+A
A-

ما كافييف يسوى أموره مع العالم بفيلم "Mysteries of the organism"

ما من شك، في أنه ليس من المبالغة التأكيد بأن السينما اليوغسلافية تحمل الروح الخلاقة والأصالة الفنية بكل معاني التنظير والمصطلحات، وكانت في السبعينيات تحديدا تمر بمرحلة اكتشاف فرضتها الظروف التي عاشها المجتمع اليوغسلافي، وفي هذا الاتجاه عمل عدد من المخرجين في البحث عن أشكال جديدة بمعطيات غير منطقية ونظرية رمزية لتكون لغة، كما فعل المخرج دوسان ما كافييف في فيله الجريء الغريب الممتع"Mysteries of the organism" الذي حاول فيه أن يسوى أموره مع العالم ويفضح تناقضات ذلك العصر بكل شجاعة.

الفيلم محاولة للمخرج ماكافييف لفك حصار الصمت حول نظريات البروفسير وليم رايش الذي توفي في أحد سجون الولايات المتحدة عام 1975، من خلال أحاديث بعض تلاميذه ومعاونيه، ومن خلال العيادات النفسية التي تطبق فيها هذه النظريات، وقد لخص الدكتور الكسندر لوين نظريات رايش في عبارة واحدة هي "أنك لا تملك جسدا وإنما أنت جسدك"، كما نتابع رجلا مجنونا يرتدى خوذة ويحمل مدفعا ويسير في شوارع نيويورك، ومن ناحية أخرى نتابع في يوغسلافيا السابقة قصة حب بين عاملة يوغسلافية وراقص باليه روسی تنتهى نهاية مروعة إذ يقتلها راقص الباليه ويفصل رأسها عن جسدها، ونحن عندما نتابع هذا كله لا نتابع خطوطا درامية تنمو أو أحداثا تتصاعد نحو الذروة أو تسلسلا دراميا متصاعدا، وانما نتابع أفكار الفنان الديالكتيكية في حركتها الدائمة، فنحن مثلا نرى العاملة وهى تخطب في جيرانها عن الكفاح الشيوعي من أجل حياة ممتعة، بينما صديقة لها ترتكب الخطيئة في خلفية المنظر، ثم نرى نقطة وثائقية لماوتسى تونغ يخطب، ثم لقطات من فيلم روائي سوفيتي لستالين يخطب في مونتاج متوازى سريع مع لقطات وثائقية لرجال يعذبون بالكهرباء، ثم لقطات تسجيلية لامرأة تصرخ في إحدى العيادات النفسية في نيويورك، وهكذا طوال الفيلم.

إن ما كافييف ينتقل من الاشارة والتلميح إلى التجسيد والتصريح، ويقترب من السريالية وهي مصيره الحتمي بقدر ما يبتعد عن الواقعية، وهو فوق كل ذلك يمجد الانسان، و ينتصر له ضد كل ما يحول بينه وبين تحقيق إنسانيته، ويعبر عن رؤيته النقدية الحادة من خلال ذلك المزيج الفريد الذي يقدمه من الخطيئة والسياسة بأسلوب سينمائي خالص يتحرر من كل الوسائل الأدبية والمسرحية، ومن كل الوسائل السينمائية التقليدية.
ومن أجمل اللقطات التي كان لها تأثير في إحساسنا كمشاهدين بالبعد الثالث وما يتبعه من تأثيرات نفسيه ودرامية، لقطة رأس العاملة اليوغسلافية وهي مقطوعة وموضوعة في إناء في غرفة الطبيب، وبعد المعاينة تنطق الرأس في مواجهة الكاميرا.. "نحن نبض لاهتزازات الكون. وفلادمير لم يستطع تحمل ذلك، وكان عليه أن يذهب خطوة الى الامام. إنه رجل نبيل وطموح ورومانسي وزاهد وفاشي حقيقي. أيها الرفاق.. أنا لا أخجل من ماضيي الشيوعي" .

هنا ومع انخفاض مستوى الكاميرا فإن الرأس المقطوعة تبدو في حالة قوة وكبرياء وهي قاعدة لها استثناءات كثيرة، ولكنها حتما لقطة تعكس المستوى الاخلاقي أو السياسي أو الاجتماعي، وايضا الاتجاه المتطرف الذي تغلغلت جذوره الى أبعد الحدود، بكل إشارة صريحة.

إن هذا الفيلم المليء بالجرعة السياسية الذي صنعه المخرج ماكافييف، يتطلب حضورا عقليا تاما من المشاهد، لأنه يقدم دفعات متعددة من المحاذير على شكل رموز وتوليفه غريبة، والاحداث والرموز لا تكشف عن نفسها فحسب، بل إنها تثير المشاهدين، فيلم يوحي بعقم الحياة الحديثة وانعدام مشاعر الناس أو كما قال كاوفمان بلا مأوى إيديلوجي. إنها السينما التي تحدث صدمة عبر البحث عن أشكال جديدة للتعبير.