العدد 5624
الجمعة 08 مارس 2024
banner
السقاء مات بأنابيب المياه..فما مصير الصحافي مع الذكاء الصناعي؟
الجمعة 08 مارس 2024

إلى بيت جدي، كان السقاء يحمل قربة الماء، ليفرغها في “الزير” الفخاري الضخم، لا أزال أذكر أن طعم الماء العذب فيها، كان أشهى من مياه شركة المياه والشرب، التي مدت المواسير والأنابيب، حينما قررت العائلة كسر أوامر جدي بعد رحيله، بتقديم طلب توصيل المياه العذبة للدار.
تقاعد السقاء، فمات بهدوء، ولم يخلفه أحد في مهنته، بعد أن أحاله التطور للتقاعد.
يمكننا أن نلمح أن مهنة السقا كانت حيوية ولا غنى عنها، وهي تمتد في التراث العربي، بامتداد اسم السقاء في جذور عائلات العديدين، ومنهم مشاهير مثل الممثل أحمد السقا، وأصول عائلته حجازية، وانتشر الاسم مقرونا بالمهنة في عدد من البلدان العربية.
ربما كان السقاءون أكثر منا عدداً، نحن الصحافيين، لذا تأثرت بتقاعد السقاء، الذي انقرضت مهنته فلم يلبث كثيرا على قيد الحياة، حتى مات بدوره، واستدعيت المثل الشعبي المصري: “السقا مات”، ولم أجد له تفسيراً، سوى أن موت مهنته، كان إيذانا برحيله.
ظل هاجس موت المهنة يطاردني، من أول يوم عملت فيه بالصحافة: هل يحين دورنا وتنتهي مهنتنا مثل السقاية؟.
طرحت السؤال على أساتذتي في الإعلام في أول تحقيق صحافي أجريه منتصف تسعينيات القرن الماضي: هل تقضي الإنترنت على الصحافة؟ كانوا يبتسمون في ثقة وتفاؤل مجيبين: الإنترنت وسيط، مثل الورق، ربما يتغير الوسيط وتبقى المهنة وممتهنوها.
تذكرت تلك الإجابات أمس، حينما قرأت رد مايكروسوفت على اتهامات صحيفة النيويورك تايمز بانتهاك حقوق الطبع والنشر، من خلال استدعاء أجهزة الفيديو، وذلك لكى تستشهد بالتكنولوجيا في محاولتها رفض ثلاث مطالبات في دعوى انتهاك حقوق الطبع والنشر التي رفعتها صحيفة نيويورك تايمز ضد OpenAI وMicrosoft.
لم يكن خيال أساتذة الإعلام بلغ ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي بالمهنة، فها هي توشك أن تحيل الصحافة والصحافيين للتقاعد، وربما لا يمتد الزمن حتى العام بعد المقبل على أقصى تقدير، ليكون الصحافيون على موعد للحاق بالسقاء، إن لم يستمعوا جيدا لتحذيرات تقرير معهد رويترز للصحافة السنوي، والذي صدرت نسخته الأخيرة مؤخراً، متوقعاً أن يشهد عام 2024 هيمنة الذكاء الاصطناعي على الفضاء الإعلامي، مع توقعات بإنتاج غالبية المحتوى على الإنترنت بواسطة الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2026.

والقضية المتداولة بالمحاكم الأميركية بين عملاق الصحافة وعملاق التقنية، كاشفة لصراع بدأ ولن ينتهي عما قريب، أود أن أقول لرفاق مهنة البحث عن المتاعب أننا سننتصر، لكي لا نلحق بالسقاء بأسرع مما نتوجس.
لم تكن نيويورك تايمز وحدها في الصراع ضد الذكاء الصناعي، بدعوى نسخ قصصها واستخدام تلك البيانات لتقليد أسلوبها، لكن محامي مايكروسوفت يجادلون الآن بأن نماذج اللغة الكبيرة لـ OpenAI هي الأحدث في سلسلة طويلة من التقنيات التي تعتبر قانونية على الرغم من احتمالية انتهاك حقوق الطبع والنشر. 
وفي تقريره المذكور، الذي استطلع فيه معهد “رويترز” آراء 300 من قادة الأخبار من 50 دولة ومنطقة، للوصول إلى الاتجاهات التي يجب أن ينتبه إليها الناشرون والعاملون بالصناعة في العام 2024، خلصت نتائج الاستطلاع هذا العام إلى أنّ القوة الضخمة للذكاء الاصطناعي (AI) ستجتاح الفضاء الإعلامي طوال العام الحالي 2024، وسط تذبذب سياسي واقتصادي حاد يشهده العالم.
ورجح التقرير أن تؤثر هيمنة الذكاء الاصطناعي على موثوقية المعلومات واستدامة وسائل الإعلام التقليدية، في عام يشهد انتخابات مصيرية في أكثر من 40 دولة ديمقراطية، مع استمرار الصراعات في أوروبا والشرق الأوسط.
غالب محتوى الإنترنت سينتجه الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2026، بحسب التقرير، ما يحتاج معه الصحافيون ومؤسسات الأخبار إلى إعادة التفكير في دورهم ورسالتهم بشكل عاجل.
ورغم كل تلك النظرة غير المتفائلة، لا زلت أؤمن أن التقنيات تولد الفرص من جانب، مثلما تقلصها في جانب آخر، والمهم هو الإجابة على سؤال: كيف نتمكن من التكيف مع هذا العالم الجديد؟ وهو ما سأتناوله في المقال القادم بإذن الله.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .