شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي يحددها البعض بالنسبة للولايات المتحدة، في الفترة من 1945 إلى 1975، مجموعة من التحولات الإيجابية التي عرفتها الولايات المتحدة، تمظهرت في تنامي قوة واشنطن على الصعيد الاقتصادي، وانتشار نفوذها السياسي العالمي، وتسارع وتيرة خطواتها على طريق التغيير الاجتماعي، وانتعاش برامجها في فضاء التطور الثقافي، وتركيز مشروعاتها من أجل تحقيق المزيد من التقدم على طريق صناعة الاتصالات والمعلومات. وأصبحت واشنطن بفضل ذلك قوة عالمية عظمى. تتمتع ببنية تحتية متينة على الصعيد الداخلي، وتحظى بالإعجاب الذي تسعى الدول الأخرى للاحتذاء به على المستوى الدولي الخارجي.
يعزو البعض هذا التحول الداخلي، والصعود الدولي الأميركي إلى عوامل مختلفة، بما في ذلك التوسع الاقتصادي، والابتكار التكنولوجي، والقوة العسكرية، والتأثير الثقافي، والتقدم التعليمي.
ويضيف البعض الآخر إلى تلك العوامل، تأخر خوض الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية. فلم تتعدى مشاركتها 3 سنوات من أصل 6 سنوات. علاوة على ذلك، لم تجر أي من معارك تلك الحرب، على أراضي الولايات المتحدة، بشكل مباشر. لذلك، كانت الخسائر والإصابات أقل بكثير مما كانت عليه في البلدان الأوروبية، أو الآسيوية الأخرى. كذلك لم تمس تلك الأضرار البنية التحتية الأميركية، بشكل مباشر، وعلى نحو مدمر، كما عرفتها تلك البلدان.
لذلك لم يتجاوز عدد القتلى الذي تكبدته الولايات المتحدة كخسائر بشرية أكثر من 400,000 إنسان. كما كان تأثير الهجوم على بيرل هاربور نكسة محدودة، تعافت منها واشنطن في فترة زمنية قياسية. من هنا، كان أداء واشنطن أفضل بكثير من دول أخرى بما فيها تلك التي خاضت غمار الحرب، وتعرضت لويلاتها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
من هنا تمظهر تفوق الولايات المتحدة في الفترة التي تلت الحرب، والتي تحددها بعض المصادر التاريخية بالفترة بين 1945 و1975، في الانتعاش الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي، والابتكار التكنولوجي، والقوة العسكرية، والتقدم التعليمي، والانتشار الثقافي.
لكن هذه الإنجازات على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي زودت الولايات بتفوقها على المستوى الدولي وتميزها على الصعيد الداخلي، بدأ يتسلل إلى جسدها الوهن، وتنخره مشكلات معقدة، وتنهكه تحديات مصيرية على الصعيدين الداخلي والخارجي، على حد سواء.
وهنا ينبغي تأكيد أن المشكلات التي تواجه الولايات المتحدة كقوة عظمى، اليوم، معقدة ومتعددة الأوجه، وليس هناك إجابة محددة واحدة في وسعها أن تفسرها، وتحصي أسبابها كي تضع الحلول الصحيحة الناجحة لها، التي في وسعها انتشال واشنطن من المشكلات الراهنة التي تواجهها، أو تلك المستقبلية المتربصة بها.
فوجهات النظر المختلفة تعطي الأولوية لاهتمامات مختلفة. ويمكن تلخيص بعض التحديات الأكثر إلحاحًا ، قبل تناولها بالتفصيل، بالقضايا المفصلية التالية:
على مستوى القضايا المحلية هناك مجموعة من التحديات الأبرز بينها:
1. الاستقطاب السياسي: فهناك الكثير من الانقسامات العميقة بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأن مجموعة من القضايا المصيرية الداخلية، التي تجعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة بينهما.
2. عدم المساواة الاقتصادية: أدى اتساع الفجوة الاجتماعية والمالية بين الأغنياء والفقراء، إلى الاضطرابات الاجتماعية والاستياء المتنامي الذي بات يهدد الاستقرار الاجتماعي الذي طالما نعمت به الولايات المتحدة، بعد سنوات الحرب.
3. الرعاية الصحية: تفاقمت مشكلات الحصول على رعاية صحية جيدة، وبأسعار معقولة لجميع المواطنين. وأصبحت هذه المسألة تتصدر المشكلات التي تساهم في حسم نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية.
4. العنف المسلح: مشكلة مستمرة، تتعلق بإطلاق النار الجماعي والوفيات المرتبطة بالأسلحة النارية.
5. تغير المناخ: تصدرت قضايا التغيرات المناخية قائمة اهتمامات القوى السياسية الأميركية، وولدت استقطابًا تناحريًا غير مسبوق بين تلك القوى. التأثير طويل المدى لتغير المناخ، انعكس على العلاقات السياسية الداخلية وبرزت الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات كبيرة للتخفيف من آثارها.
6. الظلم العنصري: لم تعد قضايا التمييز حالات متناثرة، في الوسع إخفائها، أو تأجيل وضع الحلول المناسبة لها. فقد تحول العنف إلى ظاهرة منهجية متكررة، ارتبطت بالنضال المستمر من أجل المساواة العرقية. أما بالنسبة للأوضاع الدولية الخارجية، فيمكن تلخيص القضايا السياسة الخارجية الأكثر حضورًا في المشهد السياسي الأميركي على النحو التالي:
1. المنافسة مع الصين: فصعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية كبرى، تحول إلى تحدٍ متصاعدٍ يواجه الهيمنة الأميركية على الساحة العالمية.
2. الحرب بالوكالة مع روسيا: أصبح الصراع المستمر في أوكرانيا، وتأكيد الحضور الروسي الأوسع دائرةً في الشؤون الدولية، همًا مستمرًا يقض مضاجع إدارة البيت الأبيض.
3. عدم الاستقرار العالمي: قاد تنامي الصراعات والأزمات الإنسانية في مختلف المناطق والدول، والتي تتطلب تدخل أو دعم الولايات المتحدة، أمرًا محرجًا لواشنطن في مسرح موازين القوى الدولي.
4. الضعف الذي بدأ يدب في التحالفات الأميركية: يرى البعض أن التحالفات الأميركية آخذة في التآكل، وتضعف مكانة الولايات المتحدة العالمية، بسبب الافتقار الملحوظ إلى الموثوقية، أو تغير الأولويات، ومن ثم تباين الاستراتيجيات بين أطراف القوى المتحالفة، في نطاق المحور الأميركي.
5. اهتزاز القدرة على الاحتفاظ بموقع قيادة عالمي: لم يعد واقع الاقتصاد الأميركي الغارق في مشكلاته المفصلية، قادرًا على تلبية التزامات الولايات المتحدة الدولية. وفقدت بنود الموازنة نسبة عالية من قدرتها على أن تفي بالالتزامات التي طالما تقيدت بها.