العدد 5614
الثلاثاء 27 فبراير 2024
banner
دمعة وفاء على الفقيدة عائشة بنت أحمد إبراهيم المؤيد
الثلاثاء 27 فبراير 2024

 إن كلمات الرثاء صعبة في حق القريبات اللاتي لهن مكانة خاصة في قلوب أقاربهن ومحبيهن وكل من عرفهن، ومنهن الخالة العزيزة عائشة بنت أحمد إبراهيم المؤيد (أم فاروق)، التي انتقلت إلى رحاب الله تعالى في فجر يوم الجمعة 6 شعبان 1445هـ الموافق 16 فبراير 2024، عن عمر ناهز 98 عامًا، ودفنت بعد صلاة العصر في مقبرة المنامة، دار في خاطري الكثير من الذكريات عند سماعي نبأ الوفاة، فقد كانت بمثابة الخالة لكل من عرفها، فهي الوفية والمحبة للناس وتصل الأقارب والمعارف الأحياء ودائمة الترحم على المتوفين، ولمس الجميع منها ما تتحلى به من أخلاق حميدة وتواضع وإلمام في مختلف المجالات، فقد كانت موسوعة في كثير من الأمور، وكنا نستعين بمعلوماتها وذكرياتها عن الكثير من الأحداث التي عاصرتها أو سمعت عنها، وكنا نحرص على زيارتها أو مهاتفتها كلما سنحت الظروف.


 كانت الفقيدة ملمة بالكثير من الأحداث والذكريات التي تستحق تدوينها، وذكرت بعضها في كتابها القيم “عائشة المؤيد.. بنت البيت العود” الذي صدر في عام 2018 وكان من تأليفها وإعداد الأستاذ علي صالح، وسوف يتم إصدار النسخة باللغة الإنجليزية قريبًا.
اشتمل الكتاب على أحداث ومعلومات مشوقة عن سيرة: المؤلفة، زوجها المرحوم الوجيه يوسف خليل إبراهيم المؤيد، أولادها، بناتها، أحفادها وحفيداتها، من خلال حياتها وتجاربها الشخصية وهوايتها المعروفة في الرسم، ولعها في الزراعة واستنباط وتدوين كثير من الأمراض ومعالجتها باستخدام الأعشاب الطبية (استطاعت أن تزرع بذور الحسو قبل 30 عامًا عندما سكنوا في بيت البديع وأصبح سنابل في حين أن في السابق يستوردون بذور الحسو وقامت بها للتجربة فقط حيث إن الحسو تفيد الحامل بعد أن تضع حملها) وإسهاماتها الخيرية الخاصة بها والعامة من خلال شركة يوسف خليل المؤيد وأولاده ومنها:
 تأسيس وحدة المرحوم محمد يوسف المؤيد لعلاج المدمنين على الكحول والمخدرات في العام 1983، والتي اتخذت اسم ابنها محمد الذي اغتالته يد الغدر خلال رحلة عائلية في لبنان في العام 1972، لتكون هذه الوحدة هي الأولى والوحيدة في البحرين التي تعالج المدمنين كأحد المشروعات الإنسانية، مركز يوسف المؤيد لعلاج الكلى، والذي جاء كتبرّع بعد وفاة زوجها ليساهم المركز في تخفيف معاناة مرضى الكلى في البحرين، صالة عائشة أحمد المؤيد في مدينة عيسى للمناسبات، دار عائشة المؤيد لرعاية كبار السن في المحرق ولجنة يوسف وعائشة المؤيد للأعمال الخيرية التي أعلن عن إنشائها الوجيه فاروق يوسف المؤيد في عام 2013، تلبيةً إلى رؤية العائلة في حماية ومساعدة المحتاجين وشعارها “نحن نراها كفرصة بأن نتحلى بالإنسانية ونقوم بواجبنا تجاه الآخرين”. 
إن هذا الكتاب هو عصارة جهد المؤلفة في تدوين وتوثيق معلومات عديدة عن الحياة الخاصة والعامة في مملكة البحرين والمنطقة من خلال معايشتها ومعاصرتها وما سمعته أو قرأته فقد ذكرت المؤلفة الكثير من أمور التراث والتقاليد والتاريخ والعادات البحرينية السائدة في تلك الفترة وظروف التعليم المبكر في البلاد وأثرت الكتاب بالعديد من الصور الفوتوغرافية النادرة ورسوماتها للبيت العود وبعض المناظر الطبيعية الأخرى.
وكذلك كان للفقيدة دورها الريادي من خلال الجمعيات النسائية في بروز دور المرأة البحرينية وانبثاق أول تجمع نسائي من خلال نادى السيدات في عام 1953 وتأسيس جمعية نهضة فتاة البحرين بدعوة من المرحومة السيدة عائشة يتيم ومقترح المرحوم زوجها الوجيه حسين يتيم بتأسيس الجمعية في عام 1955 وكذلك من خلال المشروعات والمساهمات الإنسانية والاجتماعية العديدة للمؤلفة وعائلتها. 


كانت الفقيدة تذكر الأحداث والوقائع بكل أمانة وحيادية ودقة، وأصدرت كتابين آخرين باللغتين العربية والإنجليزية عن الطب الشعبي بعنوان “تجربتي مع الطب البديل” ولوحات عائشة أحمد المؤيد الفنية عن البيت العود والمناظر الطبيعية التي قامت برسمها وحفظتها من الاندثار، ومنها عمارة المؤيد القديمة المطلة على البحر وبعض العيون المائية وسوف تكون هذه الكتب القيمة بإذن الله مرجعًا للباحثين والمهتمين بتوثيق الأمور الاجتماعية والتاريخية والتراثية والتعليمية والتقاليد الإسلامية السمحاء وتقاليدنا العربية العريقة التي توارثها الآباء والأجداد والأمهات والجدات، التي ساهمت بأن تكون مملكة البحرين بلد الأمان والانفتاح والحضارة والعلم والتعايش.
تمكنت الفقيدة بكل اقتدار من تدوين وتوثيق ووصف تلك الأحداث والمعلومات التي عاصرتها بطريقة متقنة ساهمت في جعل القراء وكأنهم متواجدون في تلك الفترات للاستفادة منها حتى لا تنطوى بعضها ضمن صفحات الماضي وتختفى مع مرور الزمن، مما يساهم في نشر المعرفة لدى الجيل الحالي وجيل المستقبل ومن تلك المعلومات: 
تجارة العائلة، العيش في البيت العود، المطوع، المطوعة، إنشاء المدارس الحديثة، العلاج والطب الشعبي والحديث، أحداث الحرب العالمية الثانية، إطفاء الأنوار، غارة الطيران الإيطالي، حيث قالت بأنها سمعت أصوات الطائرات وصوت صفارة الإنذار ولكن لم تسمع أصوات انفجار القنابل التي تم إسقاطها، شح الغذاء والدواء، إصدار الحكومة بطاقة التموين، وصف البيت العود وما به من العديد من الحجر الكبيرة والشرفات الخشبية والنوافذ الزجاجية المعشقة بمختلف الألوان الجميلة والمطلة على الحوش الكبير الذي كان يجمع سكان البيت وزوارهم من الأقارب والأصدقاء والجيران.
تركت الفقيدة بصمات مضيئة في مختلف المجالات الاجتماعية والتطوعية والخيرية وخلفت أولادًا وبنات وأحفادًا وحفيدات يشار لهم بالبنان في مختلف المجالات، وهناك الكثير عن الفقيدة لا يتسنى ذكرها في هذا المقال المختصر وخير ما أختم عنها وعن أعمالها القيمة، ما قالته عن كتابها: “أن الحياة معايشة وعلاقات وتجارب وأن إصدارها لهذا الكتاب هو التحدث عن معايشتها وماذا استفادت من الأمكنة والناس وماذا قدمت لعائلتها (المؤيد) ومجتمعها الصغير(فريق الفاضل/‏كانو) ومجتمعها الكبير(وطنها البحرين) وما هي خلاصات تجاربها وماذا قدمت من أعمال إبداعية وما تكون لديها من انطباعات تتعلق بالبحرين والدول التي زارتها وأن الإنسان مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، غنيًّا أو فقيرًا، لا قيمة له إلا بما يعمله ويقدمه للآخرين ولمجتمعه ولوطنه”، وكما لخصت ابنتها الأستاذة سلوى يوسف المؤيد بكلمات معبرة عن والدتها بقولها: “يوم الجمعة وهو يوم العائلة الأسبوعي تبدو فيها والدتي وكأنها نجمة تنير المكان وقد التف حولها الجميع ليستمتعوا بروحها المرحة الشابة ولديها قدرة وحيوية متجددة لفهم طرائف أحفادها ومبادلتهم الأحاديث وكأنها في أعمارهم وأنها في حياة العائلة كالشجرة السنديانة تظلل كل من حولها بحبها وحنانها وروحها الطيبة المتواضعة المتدينة المنفتحة فكريًّا المحبة لجميع الأديان والطبقات وأنها امراة مكافحة بوقوفها إلى جانب زوجها وهو يبنى مستقبله الناجح ليكون أحد مؤسسي تاريخ اقتصاد البحرين الحديث، لذلك جلست معها وسجلت على أشرطة أحاديثها المتعلقة بالجانب الشخصي والعائلي وبعض من حياتها الزاخرة بالحب والعطاء”. 
يحدوني الأمل في أن يحرص الجيل الحالي على قراءة تلك الكتب القيمة لما بها من أحداث ووقائع وعبر مفيدة خاصة للذين لم يعيشوا أو يعاصروا أو يسمعوا عن تلك الأحداث مما يساهم في خلق شعور الاعتزاز والفخر والحفاظ على التقاليد والعادات الحسنة واسترجاع بعض من تلك الأحداث الماضية والسنين الجميلة من خلال ذكريات بيت المؤيد العود، الذي كان شامخًا وكبيرًا بأعمال ومساهمات سكانه العديدة وكان ملتقى الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف والجيران وهناك الكثير من أبناء وبنات الحي من مواطنين ومقيمين ترعرعوا في ذلك البيت ومازال لديهم الحنين للرجوع إلى مراحل الطفولة ولو لسويعات قليلة فقد كان للفقيدة وبيت المؤيد تراث هائل من الأحداث والذكريات والإخاء والتسامح وكونه بوتقة وملتقى حضاري وكانت أبوابه مفتوحة للجميع ومن دون تمييز في الأصل، اللغة، العرق، اللون، الديانات، المذاهب أو الفروقات الاجتماعية ولا تغلق أبوابه إلا في الليل. 


تميزت حياة الفقيدة بالعطاء المتواصل في خدمة الوطن والمواطنين، آخذة بتعاليم الإسلام السمحة بالالتفات إلى احتياجات الآخرين دون منفعة دنيوية مرجوة، ولها الكثير من الصدقات والمساعدات التي أخفتها، حتى لا تعلم يمينها ما تنفق شمالها، ولم يقتصر الخير على بذل المال فقط، بل أيضًا ببذل الكلمات الطيبة وتقديم النصائح القيمة، والدعاء لهم بالهداية والصلاح، مما جعلها محل احترام وتقدير جميع من عرفها، وتركت لديهم ذكرى طيبة لا تنسى، وستبقى ذكراها حاضرة لدى الجميع بإذن الله تعالى.
وكما أود أن أضيف أن الفقيدة كان لها مقدرة استثنائية لا يعلمها إلا المقربين لها فقد أكرمها الله سبحانه وتعالى بموهبة تفسير الأحلام بدقة مغايرة لكتب تفاسير الأحلام المعروفة مثل “ ابن سيرين وابن شاهين والنابلسي والسيوطي وسيغموند فرويد”.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الفقيدة بواسع رحمته، وأن يدخلها فسيح جناته، ويلهم أهلها وأقاربها ومعارفها ومحبيها الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية