العدد 5603
الجمعة 16 فبراير 2024
banner
عذرا يا هند!
الجمعة 16 فبراير 2024


في الوقت الذي كنت تصرخين فيه، يا هند، كان العالم مشغولا عنك، كنّا نحن أيضا مشغولين عنك بأشياء كثيرة، كنّا في غمار الحياة؛ بعضنا تائه بحثا عن خبزه اليومي، وبعضنا يتألّم في صمت ممّا يجري في غزّة والضفة الغربية، وبعضنا الآخر يتابع المهرجانات والفعاليات الترفيهية، وبعضنا الآخر يتابع نهائيات كأس آسيا وكأس أفريقيا لكرة القدم.. وبعضنا صم أذنيه عن صوت استغاثتك، فضاع صوتك الصادر من المركبة الهادر من بين أشلاء الشهداء، ضاع في تلّ الهوى وتلاشى مع الهواء.. وأنت تستغيثين.
عذرا يا هند! حين كان الرعب يملأ كيانك الطفولي، حين كنتِ تحت الحصار والقصف الصهيوني الهمجي على المركبة وأنت بين أشلاء الشهداء، هرع إليك البطلان المسعفان من الهلال الأحمر وبتنسيق مع الاحتلال وبعلم منه لإنقاذك، لكنهما لم يعلما أنّ أزيز رصاص عدوّ الإنسانيّة لا يزال يدوّي ويختطف الشهداء الواحد بعد الآخر بمخالبه الفولاذية، لم يعلما أنها آخر رحلة إنقاذ، لم يعلما أنّهما سينضمّان إليك في "رحلة الموت" شهيدين بالرغم من كل المواثيق الدولية والقوانين الأرضية والسماوية التي تحمي الأطفال والمسعفين في الحروب. عذرا يا هند! حين كان صوتك يدوي مرتجفا صارخا باكيا "خذيني.. تعالي.. أمانة كتير خايفة تعالوا"، حين كانت هذه العبارات تهزّ أرجاء الكون وتنتفض لها أفئدة الحيوانات والنباتات والجمادات.. كان الصوت/ الصمت العربي والعالمي غائرا نائما قد استكان إلى ذاته في مخمصة اليوميّ والعاديّ وكأنّه غير معنيّ بهذا القطاع الجغرافي من العالم، وكأنّنا لسنا في قرية كونية، وفي أحسن الحالات كان بعضنا يتابع مجرى الأحداث في غزة وقد اعتادها يوما بعد يوم يعدّ أيام القصف المستمرّ وأعداد الشهداء والجرحى وأعداد المنازل والمربعات السكنية المهدمة، ثم ينصرف عنها ويعود إلى يومه الطويل.
عذرا يا هند! لم تكن أمّك "وسام"، تعلم أنها تزفّك في قافلة الشهداء حين اختارت الذهاب بحثا عن الأمان سيرا على الأقدام، وتركت لك مكانها في سيارة عمك خوفًا عليك من الرصاص الغادر الطائش ومن المطر، لم تكن أمك تعلم أنك ستظلين مفقودة لــ 12 يومًا، وقد تلاشت من حولك سبل الحياة حتى يُعثَر عليك شهيدة بالرغم من كونك لم تحمل سلاحا، إنما حملت أحلام الطفولة في فلسطين وعرجت بها إلى السماء أنت و"لَيان" ابنة عمك إذ تستغيثان: أمانة كتير خايفة تعالوا.. "عمو قاعدين يطخوا علينا.. ساعدونا"، وأطفال فلسطين يرددون من خلفكما: "أعطونا الطفولة أعطونا السلام".
عذرا يا هند! لا تنتظري شيئا من محكمة العدل الدولية ولا من مجلس الأمن "الأميركي" ولا من الدوائر القضائية العالمية؛ فجرائم الكيان لم تكن موثّقة بالصور فقط، بل كانت تبث على الهواء مباشرة، فهل ينسى العالم الأعمى اغتيال الإعلامية شيرين أبوعاقلة؟ أم ينسى قنص الأخوين رامز وعادل منذ أيام قليلة؟ أو قتل الطفل محمد الدرة منذ 24 عاما وعلى الهواء مباشرة.
عذرا يا هند! فشلت منصات التواصل بالرغم من انتشار وسم "أنقذوا هند"، فشلت لأن الحرب على الأرض أساسا وليست في مواقع التواصل الاجتماعي، قوافل الشهداء من الأبرياء أطفالا وشيوخا ونساء على الأرض يودعوننا يوما بعد يوم.. فهل يتحرك العرب والعالم حقيقة لإنقاذ هند الأخرى؟ هل يتحركون حقيقة من أجل عيون هند البنت الفلسطينية أمل المستقبل؟
رحلتِ يا هند، رحَلَتْ طفولتُك وحضرني قول محمود درويش: "الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء".

كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية