العدد 5601
الأربعاء 14 فبراير 2024
banner
الأديبان الفلسطينيان درويش وكنفاني
الأربعاء 14 فبراير 2024


في عالمنا العربي تمكنت الأحزاب الراديكالية تحت وهج شعاراتها الثورية الجذّابة وبرامجها السياسية للتغيير، وما بلغته أيضاً من درجات متفاوتة من الانتشار الشعبي.. نقول: تمكنت من استمالة قامات إبداعية كبيرة في الشعر والرواية والقصة والمسرح،وكذلك في الفن بروافده كافة، من موسيقى وغناء وفن تشكيلي ونحت وخلافها، وهذا الاستقطاب للمبدعين إذ تحقق منذ بواكير نشأتها إبان المرحلة الاستعمارية،فإنه استمر خلال مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني. بيد أن العلاقة بين المبدع وحزبه لم تسر دائماً على وتيرة واحدة مماثلة لعلاقة الحزب برفاقهم سائر الأعضاء، إذ كان الكثير منهم ينفر من الوصاية الحزبية على كتاباتهم الإبداعية، وتحديد ما يجب أن يُنشر وما يجب أن يُشطب أو أن يُحظر، سواء طُبقت هذه الوصاية أو التدخل  في نتاجاتهم الأدبية بوجه خاص على الشعراء والروائيين، أم على الفنانين في مختلف مجالات الفن. وغالباً ما تنتهي العلاقة التي يكتنفها قدر على الأقل من الاضطراب، إما بانسحاب المبدع من حزبه أو فصله من قِبل قيادة الحزب. وتكاد تكون الأحزاب العربية الراديكالية التي تمكنت من أن تحقق نموذجاً راقيا من التفهم والتوافق مع أعضائها المبدعين محدودة،فقد كان هؤلاء ينشدون دوماً أن تحقق لهم أحزابهم قدراً معقولاً من الحرية الإبداعية دون تدخل من الرقيب الحزبي في نتاجاتهم الأدبية، والذي غالباً ما يتم وفق معايير  فهم ضيقة في قراءة النص الإبداعي هو أشبه  بمنظورهم الرقابي على الكتابات السياسية التي يكتبها كتّاب الحزب من مقالات ومؤلفات وخلافها.وإذا كانت الأحزاب الثورية، سيما المنحدرة من التيارين القومي واليساري،قد تمكنت من خلال شعبية قاماتها الإبداعية أن توسع من شعبيتها هي الأُخرى في أوساط النخبة الأدبية والمثقفة، كما في أوساط عامة الناس في حالة الشعر والغناء الشعبيين، فإنه ينبغي الاعتراف بأن عدداً غير قليل من المبدعين ما كان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا  إليه من ارتقاء عال في الإبداع لولا احتضان أحزابهم لمواهبهم الجنينية قبل بلوغها القمة، وبخاصة فيما يتعلق بالأحزاب التي فتحت صفحات صحفها الحزبية لكتاباتهم الأولية، وإن كانت ثمة طائفة من الأدباء والفنانين من متوسطي الإبداع أو ما دونهم إنما حققوا شهرتهم بفضل شعبية أحزابهم. ومثلما يلعب المبدعون دوراً في توسيع شعبية أحزابهم العربية من خلال شعبيتهم الجماهيرية والعكس صحيح، فإن المبدعين المنحدرين من تيار فكري عريض واحد وينتمون إلى أحزاب تنحدر من التيار ذاته بإمكانهم أن يلعبوا أيضاً دوراً في رسم علاقات نموذجية فيما بينهم لا تتأثر بالخلافات أو الصراعات بين الأحزاب الحزبية المنتمية إلى تيار عريض مشترك،وإن كانت العلاقات النموذجية البينية الحزبية من هذا النمط في تاريخ الأحزاب العربية تكاد تكون نادرة أو معدومة .
مناسبة هذه المقدمة الطويلة ما قرأته مؤخراً عن علاقة  نموذجية، ربطت بين شاعرين فلسطينيين كبيرين تسامت  فوق التناقضات أو الخلافات التنظيمية بين تنظيميهما، الأول هو الروائي والقاص غسان كنفاني، والثاني هو الشاعر محمود درويش، وكلاهما كانا ينتميان إلى تنظيمين سياسيين ينحدران من تيار اليسار العربي العريض، فالأول كان عضواً في  الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والثاني كان عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي " راكاح" والذي يضم يهودا وعرباً.وهذه العلاقة جاءت غداة تأسيس التنظيم الأول الذي تم بعد النكسة بشهور قليلة في أعقاب تبنيه الفكر الماركسي.
وتكشف وثيقة من ضمن الوثائق التي تم نشرها في كتاب "ميلاد الكلمات" للإعلامية  الفلسطينية امتياز دياب ولنا عودة قادمة لهذا الكتاب المهم والذي يحتوي على مجموعة مخطوطات ورسائل تركها الشاعر درويش في مسكن من المساكن التي سكن فيها بمدينة حيفا قبل انتقاله إلى المنطقة العربية( القاهرة ثم بيروت).. نقول تكشف لنا تلك الوثيقة العلاقة النموذجية الراقية بين الأديبين الكبيرين، وإن كانت تبدو لم تستمر إلا فترة قصيرة، فقد اُستشهد الأول في بيروت في حادث تفجير سيارته من قِبل الموساد الإسرائيلي في صيف 1972 عن عمر يناهز ال 36 عاماً. وهذه الوثيقة هي عبارة عن رسالة حميمية بعثها كنفاني من بيروت إلى درويش حيث يعيش داخل "أراضي عرب 48". وكانت صحافة حزبه العلنية هي من تتكفل بنشر إبداعاته الشعرية الأولية، ولم تكن  له ثمة وسيلة إعلامية عربية أُخرى للنشر سواها، وفي هذه الرسالة المؤرخة في 15 ديسمبر 1967 والتي دوّنها  بعد  أيام قليلة من تأسيس فصيله "الجبهة الشعبية" يعرب كنفاني عن صادق محبته وتقديره وإعجابه بدرويش، ثم يوجه له طلباً على الفور من أول سطر في الرسالة:" أكتب لك باختصار راجياً لو تستطيع أن تؤمّن لي أكبر كمية من شعرك الذي لم يُنشر مع عدد من صورك ورؤوس أقلام كافية من حياتك. ويشيد بدرويش كونه أضحى شاعراً شهيرا للغاية، وأنه ترجم بعض قصائده للفرنسية، وأنه بصدد طبع ديوان ضخم لأشعاره وأشعار رفيقيه في الحزب، توفيق زياد وسميح القاسم، مترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، كما يلفت كنفاني في رسالته انتباه درويش إلى أنه اتفق مع أحد الناشرين على أن يخصص ريع الكتاب المزمع نشره لمشروع خيري. وفي ختام الرسالة يطلب منه إقناع سميح وتوفيق زياد بأن يرسلا دواوينهما الأخيرة. ويتضح  لنا من نص هذه الرسالة بأن كنفاني كان ملماً باللغتين الإنجليزية والفرنسية وهذه مزية مهمة إذا ما كانت تحت متناول أي أديب عربي؛ لأهمية هاتين اللغتين العالميتين في الأدب العالمي. على أننا لا نعلم على وجه اليقين ما إذا كانت ظروف درويش السياسية البالغة الصعوبة تحت حكم الاستعمار الاستيطاني والمعزول كيانه عن المحيط العربي قد مكنته من تلبية ما طلبه كنفاني.
والحال فإن رسالة كنفاني تعكس في الوقت نفسه ما يتمتع به هذا الروائي من مصداقية خالصة في محبته لكل أدباء ومثقفي وطنه على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية ما دامت تجمعه معهم روح الإخلاص والتضحية لقضية شعبهم ووطنهم المشتركة. كما يُستنتج من الرسالة أيضاً بأن صاحبها ذو طاقة جبارة في العمل ويمتلك مبادرات خلاقة في التفاني من أجل خدمة ومساعدة أُدباء ومثقفي وطنه في نشر نتاجاتهم الإبداعية ما دامت تصب في خدمة القضية الوطنية الفلسطينية المشتركة نائياً بنفسه عن الحسابات الحزبية الضيقة. كنفاني ودرويش هما من  أبناء جيل واحد تقريباً، وإن كان الأول يكبر الثاني بست سنوات،لكنه قياساً لعمره حيث رحل عن عالمنا شاباً لم يتجاوز  ال 36 عاماً، فإن نضجه السياسي في خدمة القضية الوطنية المشتركة يفوق كثيراً عمره وما راكمه من خبرات سياسية وأدبية. ومن يدري فلو أن الله مد في عمره لربما كان واحداً من أبرز سفراء النوايا الحسنة ليس في تجسير الفجوة بين فصائل اليسار الفلسطيني فحسب، بل بين مجمل الفصائل الوطنية الفلسطينية التي لطالما مزقتها الخلافات، في حين مابرحنا نشهد فيه هذه الفصائل وعامة تنظيمات اليسار العربي ما زالت محافظةً على نحو مذهل على أرث وتقاليد قبائلها العربية في الثأر وإحياء التناقضات وتجديد الصراعات، مهما طالت السنون وتعاقبت العقود! 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية