العدد 5677
الثلاثاء 30 أبريل 2024
banner
“كلينت” الذي أبكاني
الثلاثاء 30 أبريل 2024

قد لا يعرفه كثيرون من جيل اليوم، وربما شاهدوه على “شاهد” الأفلام الأميركية القديمة، كان ملء السمع والبصر، بطلا حتى النهاية في أفلام “الكاو بوي”، كان المناصر الوحيد لـ “الهنود الحمر”، وكان اليد الحنونة التي تربت على أكتاف القبائل “الهندية” التي أُبيدت بعد أن تبعثرت، وأُزيلت من الوطن الأميركي الأم بعد أن اقتحمه الأوروبي الأبيض. إنه كلينت إيستوود أشهر من كان يمسك بالسيجار الكوبي المعتق قبل أن يضعه في فمه، وكنا في ريعان شبابنا نحاول تقليده دون جدوى، حيث لم يكن في حوزتنا سوى بضعة قروش في حين أن ثمن السيجار يعادل أكبر من هذا الرقم بكثير.
قرأت صبيحة هذا اليوم ضمن ما أقرأ على صفحات “السوشال ميديا” ما آلت إليه أحوال كلينت إيستوود، وجدته هيكلاً عظميًا بالكاد يستطيع المشي، وبالكاد يستطيع الكلام، وبالكاد يستطيع أن يرى الضوء الشارد وهو يهرب أمام عينيه. شاهدته وهو يتحدث عن وحدته في آخر العمر، عن شبابه الذي سرقته غفلة الشهرة، وغافلته نشوة النجومية، وها هو يتحدث إلينا والدموع تتخفى خجلاً من تحت عينيه المتعبتين، يخاطب الفنان الأميركي الكبير جمهوره وهو يتجول في حديقة بيته وحيدًا: ها أنتم ترون كل شيء، مجرد عظام لا تتحرك بليونتها المعهودة، فنظر العينين متعب، وهواء الرئتين هيهات، الراحة المرفوضة هي ما تتمناه حين تبلغ سن التسعين ولا تجد أحدًا ممن تحبهم بقربك، يستمع بتذمر لتاريخك المليء بالبطولات الوهمية، وأنت تعلم أنه غير مهتم، فتواصل الحديث بغرور وغطرسة وأنانية، لكنك تستمتع، لكنك تفخر أشد الفخر بنفسك. بمرور الوقت لا تجد ما تنقله كجد لأحفادك، فهم مشغولون بحياتهم، بألعابهم، بطفولتهم أو شبابهم، مرعب أن تكون وحدك بعد أن كان الجميع يبحث عنك.   


وبعد قضاء عمرك بحثًا عن الضوء لم تفز بعائلة، فقط مجرد الوحدة والصراع، وفقط مجرد الخلوة الأبدية استعدادًا للرحيل الكبير، وفقط ذلك الخلاء الإنساني الرهيب الذي يرمقك من بعيد، ولا يستطيع أن يقدم لك شيئًا.
هذا هو كلينت إيستوود، وتلك هي حياته قبل النهاية، لا ابن أو سند، لا ابنة أو حبيبة، ولا زوجة أو رفيقة طريق، جميعهم ذهبوا مع الريح، بعضهم “خرج ولم يعد”، والبعض الآخر “خرج لعله يعود”، هذه هي حياة معظم أعظم المشاهير في عالمنا، حتى عمر الشريف الذي هجر بلاده وحبيبة عمره فاتن حمامة عاد إلى مصر قبل وفاته بسنوات، فلم يجد من الذكرى غير بقاياها، ومن المكان سوى أطلاله، ومن الزمان غير الفتات مما قسمه الله له، فمات وحيدًا نادمًا.
وها هو زميله كلينت إيستوود يستعد للذهاب الأخير بخطى متثاقلة، في فيلته الخضراء، ووسط طيوره الملونة، وذكرى لياليه الحمراء، يستعد ليترك لنا دمعة على بطل للنهاية، وغصة حزن في قلب أتعبته أساطير الزمن البديل، وغادرته “أحلام الفتى الطائر”، وبطولات “المراوغ الجميل”.
“دمعةٌ على خدي
دمعةٌ عليك
قبلةٌ مني
قبلةٌ إليك”.

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .