كانت أول هجرة استيطانية لليهود إلى فلسطين عام 1882 بشكل خفي لمجموعة من فقراء اليهود بحثا عن فرص عمل، أطلق عليها الهجرة التسللية، في ذلك العام سقطت مصر تحت الاحتلال البريطاني عقب هزيمة الثورة العرابية، الأشياء تتداعى كما لو كان هناك شبه اتفاق. صاحب فكرة الهجرة التسللية هو المفكر اليهودي ليو بنسكر (1821 - 1891)، وهو طبيب روسي كان يدعو إلى تعلم اليهود لغات البلاد التي يعيشون فيها حتى يسهل اندماجهم في تلك المجتمعات، لكنه عدل عن هذه السياسة خصوصا بعد أن أصبح رئيساً لجماعة “أحباء صهيون”.
راح يدعو إلى توطين اليهود في وطن واحد، وقام بجولة في أوروبا التقى خلالها كبار الحاخامات وكتب المقالات لشرح فكرته، لكن ردود الفعل لم تكن مشجعة فغضب وجمع أفكاره في كراسة بعنوان “الانعتاق الذاتي”، رافضاً فكرة الشتات كعقاب إلهي لليهود، كتب: “شعب الله المختار إن هو إلا شعب مختار للكراهية العالمية، وعلى اليهود التخلي عن الفكرة المغلوطة بأن تشتتهم رسالة إلهية. قدم طرحا مغايراً للرؤية الدينية مطلقاً مصطلح المسألة اليهودية على غرار المسألة الشرقية التي كانت تطلق على الخلافة العثمانية رجل أوروبا المريض في ذلك الوقت، مطالبا أوروبا بأن تحل المسألتين معا. يقول: اليهودي يعيش في بلاد لا تعترف به ابنا لها بسبب افتقاد العادات المشتركة، وعدم وجود وطن يهودي جعلهم شعبا ميتا، فقدوا استقلالهم وتحولوا إلى حالة تعفن، هم شبح جاء من عالم الأموات.. قطيع منتشر في أرجاء المعمورة دون راع يحمينا ويجمعنا، في أحسن الظروف قد نصل إلى مرتبة الماعز التي تبيت في اسطبلات الخيل. ومادام اليهود عنصرا قومياً غريباً فإنهم سيظلون محط كراهية كل الشعوب لأن الناس تخاف من الأشباح.

والحل كما يراه بنسكر: خلق قومية يهودية تتألف من شعب يعيش على أرض يملكها ولن يأتي ذلك إلا بالانعتاق الذاتي أي من خلال الجهود الذاتية لليهود والعمل على تحقيق أمر واقع في فلسطين عن طريق التسلل إليها بالطرق السرية أو الاستيطان القائم على مساعدة أثرياء اليهود المندمجين في المجتمعات الغربية دون الاعتماد على قوة عظمى.
ولكن هذه الفكرة فشلت، اكتشف تيودور هرتزل عقمها مقترحا الاعتماد على قوة استعمارية تقوم بنقل اليهود إلى فلسطين وتؤسس دولة وظيفية تابعة لقوى الاستعمار تكون ضامنة لمصالحه في الشرق، وهو ما كان.
عدم نجاح فكرة بنسكر في إنشاء الدولة لا ينفي دقة توصيفه لليهود الصهيونيين بأنهم شعب الله المختار للكراهية الدولية، فالمظاهرات تجوب العالم تضامناً مع غزة، وطلاب الجامعات في أميركا وأوروبا يسطرون فصلاً جديدا في يقظة الضمير ومواجهة الغطرسة الإسرائيلية، ما جعل هذا الشعب الذي يقوم بعملية إبادة للفلسطينيين شعبا مختارا للكراهية عن حق كما قال ليو بنسكر.

مدير تحرير “الأهرام”