العدد 5580
الأربعاء 24 يناير 2024
banner
بين الوردي وطه حسين
الأربعاء 24 يناير 2024


الدكتور طه حسين والدكتور علي الوردي، علمان و مفكران كبيران في بلديهما مصر والعراق، كلاهما أسهم بقسط وافر كبير في نهضة بلده الثقافية والعربية من حيث التنوير وتبني نهج علمي عقلاني في معالجة المشكلات التعليمية والثقافية والاجتماعية التي تكبح هذه النهضة، وهي متشابهة إلى حد كبير. واللافت المدهش أن كليهما اختار موضوع اطروحته لنيل الدكتوراه عن فلسفة عالم الاجتماع العربي الكبير عبد الرحمن ابن خلدون، وحصل على تقريظ كبير من قِبل أساتذته لعمق تناوله إياها،الأول تقدم بها إلى جامعة السوربون الفرنسية عام 1919 وكانت بعنوان " الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون"، والثاني تقدم بها إلى جامعة تكساس عام 1950، وكانت بعنوان"نظرية المعرفة عند عند ابن خلدون"، وبهذا كما نرى أنهما ليسا من جيل عمري واحد، فقد وُلد حسين عام 1889 فيما وُلد الوردي 1913، أي الفارق بينهما ما يقرب من 25 عاماً.توفي حسين عام 1973 عن عمر ناهز 83 عاماً، فيما تُوفي الوردي عام 1995 عن عمر ناهز 81 عاماً. على أن علي الوردي الذي انكب بعد نيله الدكتوراه على الكتابة والدراسات والأعمال الفكرية المتميزة، سيما في مجال تخصصه العلمي السوسيولوجي، لم يعاصر طه حسين في هذه الفترة الممتدة من الخمسينيات إلى مطلع السبعينيات سوى 23 عاماً، فيما بدأت أعمال الأخير تخبو تدريجيًا،ولا سيما منذ أوائل الستينيات؛ جراء المرض الذي لازمه حتى وفاته، وفي حين كان الوردي، كما تدل بعض مؤلفاته، قد اطلع على كل أو بعض أعمال نظيره حسين الأدبية والنقدية والفكرية، لا يبدو هذا الأخير قد قرأ شيئاً، سيما بالنظر لظروفه المرضية . 
ورغم الأعمال الفكرية الاجتماعية الكبيرة التي تركها الوردي للمكتبة العربية بعد رحيله والتي لربما لم يُلتفت إليها إلا في في سني حياته الأخيرة، فإننا نحسب له أنه كان ينجزها في ظل ظروف سياسية بالغة القسوة تعيق من حرية البحث العلمي، جراء الدكتاتوريات التي تعاقدت على الحكم في العراق، على العكس من نظيره طه حسين الذي تمتع بهامش معقول من الحرية إن في كتاباته أو في المعارك الفكرية التي خاضها،وعلى الأخص خلال العهد الملكي . 
ومن يقرأ مؤلفات الوردي، وعلى وجه الخصوص كتابه الشهير "اسطورة الأدب الرفيع"،سيجد فيه مواقفه وآرائه من بعض كتابات وأعمال طه حسين الفكرية، وما يتفق فيها معه وما يختلف،سيما فيما يتعلق بمسألة "الشعر الجاهلي" الذي رأى أن أكثره منحولاً، وهذه القضية التي شغلت الرأي العام المصري في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وثارت ضجة حولها وكُفّر بسببها طه حسين وقُدّم للمحاكمة، هي التي أكسبته شهرة واسعة، ورأى في  نظريته في هذا الصدد واهية، ولا تستحق ما أُثير حولها من ضجة ويخلص إلى أن الشعر الجاهلي كان يمثل بمعظمه الحياة البدوية التي تسود القبائل خارج مكة، وأنه مختلف عن القرآن الكريم في تصوير الحياة. وإذ عدّد الوردي النقاط التي استند إليها حسين للمقارنة بين الحياة التي يصورها القرآن والحياة التي يصورها الشعر الجاهلي ليصل إلى إن الشعر الجاهلي كان منحولا، فيما وقف نقّاده ضد رأيه للتأكيد على صحته،خطأّهم الوردي- حسين ونقّاده- بأن القرآن يشمل على تصوير للحياة الجاهلية من زاوية تختلف عن زاوية تصوير الشعر الجاهلي، وأن كليهما صحيحاً في تمثيله بالرغم من تفاوتهما في التصوير. 
وفي تقديرنا أن الوردي حينما قيّم نظرية طه حسين في الشعر الجاهلي التي قلل من شأنها، إنما فعل ذلك بمنظور الحاضر الذي كان يعيشه كباحث بدءاً من الخمسينيات بعد نيله شهادة الدكتوراه، وحيث بلغ التطور العلمي والثقافي حينها في الدول العربية درجة معقولة من التطور،لم تكن بالدرجة نفسها التي كانت عليها مصر والأقطار العربية في العشرينيات الواقعة تحت نير الاستعمار وهنا بالضبط تكمن أهمية المنهج وجرأة الطرح اللذين اتصفا بهما حسين، إذ ألقى وقتها بحجر كبير في المياه الراكدة للثورة على ما هو سائد من جمود على مدى قرون، متسلحاً  في ذلك بواحد من أهم مناهج البحث العلمي، والمتمثل في منهج الشك الفيلسوف الفرنسي ديكارت. على أن الوردي إذ انتقد نظرية طه حسين حول الشعر الجاهلي،وقف إلى جانبه ضد انتقادات عبد المتعال الصعيدي الذي هاجم طه حسين في كتابه" نقد كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي" لعدم تحديده موقفاً أو رأياً قاطعاً في دراساته وكتاباته، بل يكثر من تعابير  : يُخيّل لي، ولعل، وأكبر الظن..إلخ. ويدافع الوردي عن استخدام حسين هذه التعابير، ويرى أنها تعكس الباحث الموضوعي المتشكك الذي قد يعدل عن آراء سابقة له، وهذا أسلوب أقرب إلى الأسلوب العلمي الحديث بدلاً من الآراء والمواقف القاطعة.( علي الوردي، اسطورة الأدب الرفيع، دار  كوفان، الطبعة الثانية 1994،لندن، ص 119- 127،ص 256 - 257) .

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية