العدد 5574
الخميس 18 يناير 2024
banner
طه حسين بين ثورتين
الخميس 18 يناير 2024


يمكن القول أن المقال الضافي المسهب الذي نشره طه حسين في مجلته "الكاتب" عام 1946 بعنوان " ثورتان" والذي أعاد نشره في كتابه" ألوان" يشكل قاعدة الأفكار والاستنتاجات الرئيسة التي كان يود أن يضمّنها مشروع دراسته التي تُوفي دون انجازها، سواء اعتزم على تخصيص هذه الدراسة عن ثورة الزنج حصراً، أم بالمقارنة بينها وبين ثورة سبارتكوس. وأياً كان الأمر فإن طه حسين إذ وُفق في المقارنة بين الثورتين لم يخفِ سخريته من المؤرخين الرسميين الذين حاولوا تزييف "ثورة الزنج"  أو تهميشها، وفي هذا الصدد ينقل عنه الباحث المصري إبراهيم عبد العزيز في كتابه" د. طه حسين.. الديمقراطية" قوله في تفنيد ما كتبوه عن زعيمها صاحب الزنج محمد بن عبد الله: " يرى المؤرخون أنه لم يكن إلا مغامراً شريراً، آثر نفسه بالخير وطمع لها بالرياسة، واقترب في سبيل ذلك آثاماً يشيب لها الولدان. والمؤرخون لا يسمونه إلا الخبيث واللعين، ولا يصفونه إلا بأنه عدو الله والمسلمين.ولكن بماذا كان المؤرخون يسمونه لو انتصر؟ وبماذا كان المؤرخون يصفونه لو أُتيح له الفوز؟". و يضيف طه حسين إلى ذلك بأن صاحب الزنج لو انتصرت ثورته لما شهّر به المؤرخون وشنعوا عليه. 
وبقدر ما كان طه حسين تجذبه وتستهويه الكتابة عن ثورة الزنج، فقد كانت ثورة القرامطة أيضاً تستأثر أهتمامه، وإن لم يفصح عن عزمه الكتابة عنها، لكنه صرّح في غير حديث تلفزيوني عن رغبته في الكتابة عن الأحزاب والحركات السياسية في الإسلام والتي رأى في بعض المذاهب الإسلامية واجهةً لها. وإذ قرن ثورة الزنج  بثورة القرامطة، ورأى في هذه الأخيرة أمتداداً للأولى علّق قائلاً: "وظن الناس أن ثورة الزنج أنتهت. لكنها أعوام تمضي، إذ ثورة أخرى تظهر في العراق، فتملأ الأرض هولاً، لا في العراق وحده، ولكن في جزيرة العرب، وفي الشام، وقد تصل أطراف منها إلى مصر.كانت البصرة ضحية ثورة الزنج، ثم صارت الكوفة ضحية ثورة القرامطة."ويستطرد بأن ما يجمع الثورتين من سبب: " ...هو الخروج على النظام السياسي والاجتماعي... وغايتهما واحدة هي تحقيق العدل في الارض بعد أن أفسدها الظلم والجور".
وهنا يتجلى لنا التقاء الليبرالي طه حسين مع المؤرخين والباحثين اليسارين في عزو الثورات الاجتماعية إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية. وهذا ما أشار إليه بالضبط الباحث عبد العزيز في كتابه الآنف الذكر، حيث استطرد قائلاً: " ... فالأنظمة السياسية تقف في كثير من الأحوال عقبة في طريق الإصلاح والتغير". ويضيف المؤلف إبراهيم في مؤلفه قائلاً:" ولذلك فإن طه حسين يرى أن تغيير النظام السياسي في مثل هذه الحالات شرط لكل إصلاح فهو بمثابة قطب الرحى"ً. (ص 13 - ص 14). ويرى المؤلف أيضاً أن طه حسين لا يؤمن بأن البطل هو الذي يصنع التاريخ، بل يؤمن بأن التاريخ من صنع الجماعة لا من صنع الفرد. وهذا ما يلتقي فيه طه حسين أيضاً مع كتابات ودراسات اليسار في النظرة إلى التاريخ، سواءً بوعي منه أو بدون وعي". 
وفي في مقارنته بين ثورتي العبيد في البصرة وروما، لاحظ طه حسين أنها في الأولى قد أحتفى بها في اللاتينية واليونانية، كما كتب عنها الشعراء المعاصرون في أوروبا كثيراً من الشعر، فيما العرب أعرضوا -على حد تعبيره-  عن تاريخهم إعراضاً تاماً، ولا يحفلون ويجتمعون إلا  على عصر البطولة والإعجاب به، دون أن ينظروا إلى تاريخهم كمصدر من مصادر الإلهام الأدبي، متخذين من أوروبا المصدر الإلهامي لإقامة العدل الاجتماعي والديمقراطية والاشتراكية أنواعها، وينظرون إلى الشيوعية في كثير من التردد والاستحياء.والقليل منهم توقف عند فكرة المطالبة بالعدل الاجتماعي في البيئات الإسلامية الثائرة، في حين أن العرب يملكون تراثاً عريقاً في المطالبة بالعدل الاجتماعي والثورة على الظلم دونما حاجة للتطفل على التراث الأوروبي.( ألوان، ص 166- 167). ويستدرك حسين أنه إذا  كان الرق قد ذهب وانقضى عصره، فإن الرق الاجتماعي مازال حاضراً " فهناك شعوب تسترق شعوباً، وهناك طبقات تسترق طبقات من الناس". 
يروي طه حسين بأن المسبب الرئيسي لثورة العبيد في روما هو اتخاذهم تسلية للتفرج من قِبل كبار الملاك حيث يُجلبون إليها ليتصارعون كالديكة بين بعضهم بعضاً حتى سفك الدماء، بل وزهق أرواح بعضهم بعضاً! لكن سبارتاكوس قائد الثورة، وهو من أحد المصارعين المهرة،  جمع طائفة منهم وثقفها بالتحريض على التمرد في مدينة كابو لتهرب قبل  وصولها للملعب، ثم أنضمت إليهم أعداد أخرى من الرقيق دفعات إثر دفعات، كما انضم إليهم الآبقين وأشباه الرقيق من الفقراء والذين يعملون في الأرض والذين لايعملون، حتى تضخم جيش الناقمين الساخطين على النظام الأجتماعي، لكن سبارتكوس الذي تمكن من إحباط جميع الحملات العسكرية التي حاولت محاصرته لأخماد ثورته عند سفوح جبل فيزوف، تمكن منه في نهاية المطاف رأس حربة الثورة المضادة الثري ماركوس كراسوس واستطاع أن يهزم ثورته التي استمرت زهاء ثلاث وعُدت أكبر تمرد للعبيد في العالم القديم. وقد استطاع طه حسين باقتدار سياسي يُحسب له أن يحلل ما يمتاز به قائدا الثورة والثورة المضادة سبارتكوس وكراسوس من  مهارات جسمانية وقتالية وصفات إنسانية، فبينما الأول كان قوي الجسم شجاعاً لا يعرف الجبن، مقداما لا يعرف التردد، لكنه سمح النفس،  طيب القلب، ساذج الطبع، فإن الثاني كان مرابياً مفحشاً في الربا، لا حد لثرائه ومطامعه، وحلل حسين أسباب انتكاسة الثورة في تكالب أفرادها على الغنائم من ظالميهم، وأعتدائهم على المدن الوادعة حيث عاثوا فيها حرباً وخراباً انتقاما مما فعلوه سادتهم. وهذه الأسباب رأى فيها عميد الأدب العربي تشابها مدهشاً مع عوامل فشل ثورة الزنج البصرية التي استمرت 14 عاماً سنة. كما عقد مقارنة فذة  بين قائد الثورة الأولى وقائد الثورة الثانية، وكذلك بين مُجهض الثورة الأولى كراسوس و قامع الثورة الثانية الموفق العباسي، ووصف "صاحب الزنج"  الذي تمكن من استقطاب عبيد البصرة ونواحيها الذين كانوا يُجلبون من شرقي أفريقيا للعمل في ظروف عمل شاقة أقرب إلى القنانة والسخرة، لاستصلاح الأراضي السبخة الموات، وصفه بأنه كان رجل حزم وجلد، كما كان رجل طمع وطموح وذا صلابة رأي ومضاء العزم والثبات على المبدأ والشجاعة التي لا تعرف ضعفاً ولا فتوراً، مع مرونة وعدم تردد حيال المشكلات.وإذ أخذ عليه بأنه أسرف في القتل والتدمير وترك رجاله ينغمسون في نهب الأموال، ورد الأحرار والحرائر إلى الرق، نبّه إلى أن كل ذلك ما كان ينبغي أن يحمل عليه وحده، بل ينبغي أن يحمل على طبيعة عصره، وعلى الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، سواء منهم من حافظ على النظام القديم، أو من أراد تغييره، واستبداد الغرائز البشرية بهم ورأى بأن هذه الأخطاء القاتلة هي ما وقعت فيها أيضاً أُم الثورات "الثورة الفرنسية" . ( أنظر كتابه "ألوان" ، ص 164- 187). 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .