العدد 5573
الأربعاء 17 يناير 2024
banner
ثورة الزنج بين طه حسين وفيصل السامر
الأربعاء 17 يناير 2024


في عام 1946،أي بعد سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، نشر الأديب والمفكر المصري الكبير طه حُسين  في مجلة" الكاتب" التي يرأس تحريرها مقالاً  تحت عنوان"ثورتان"، وفي هذا المقال تحدث عن ثورتين من أهم الثورات في التاريخين الأُوروبي والإسلامي،ألا هما ثورة سبارتكوس في روما التي اندلعت شرارتها في القرن الأول قبل الميلاد ( 71-73 ق.م) وثورة الزنج التي تفجرت في البصرة في القرن التاسع ميلادي( 869- 883م)،وكلتا الثورتين رجالها من العبيد، وتتشابهان في الكثير من الظروف والأفكار والعوامل التي أدت إلى انفجارها على الرغم من أن الفاصل الزمني بينهما زهاء ألف عام، وكلتاهما أيضاً أنتهت بالفشل جراء جملة من الأخطاء الخطيرة.  هذه السمات والأفكار المتشابهة بين الثورتين وانتهاء كل منهما إلى الفشل حملت طه حسين على عقد مقارنة تحليلية بينهما، ويمكن القول أنه وُفق إلى حد كبير في تلك المقارنة. على أن مقاله بطبيعة الحال لا يرقى إلى الدراسة المنهجية العلمية الناجزة، وهو ما أعترف به ضمنيا في أحاديث إعلامية، وتُوفي -كما أسلفنا في مقال سابق- دون أن يحقق أُمنيته بانجازها إلى جانب مشاريع دراسات أخرى له ظلت معلقة.وبعد نحو ثماني سنوات من مقال طه حسين نشر الباحث العراقي التقدمي فيصل السامر دراسة رصينة له في كتاب بعنوان " ثورة الزنج" وصدرت طبعته الأولى 1954،حيث يصادف هذا العام مرور 80 عاماً على صدورها،ثم توالت مرات طبعات الكتاب  في بغداد بتوالي العقود. واللافت ثمة إشارة إلى إحدى طبعاته بأنها تمت بدعم من جامعة بغداد. ولعل آخر طبعة صدرت لها تحمل الإشارة إلى أنها "الطبعة الثالثة" وقد صدرت عام 2013 عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد.  وبين يدي الطبعة الثانية من إصدار دار المدى عام 2000.ومع أن طه حسين سبق السامر في الحديث عن ثورة الزنج، إلا أنه لا يتضح من مصادر هذا الأخير عما إذا قرأ مقاله آنف الذكر، وفي المقابل لم نجد أيضاً بين كتب وأحاديث طه حسين بعدئذ حتى رحيله عن عالمنا ما يوحي بأنه أطلع على دراسة السامر، علماً بأن دراسة هذا الأخير قُدمت في الأصل كدراسة لنيل الماجستير من جامعة فؤاد الأول( القاهرة حالياً)،  وكان عنوانها الأصلي" ثورة الزنج وأثرها في تاريخ الدولة العباسية" لكنه لم يشر إلى تاريخ تقديمه هذه الدراسة إلى تلك الجامعة، وهذا ما لفت الكاتب العراقي كاظم شكيب إليه في مقال له في صحيفة"المدى" الصادرة في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2019. كما يشير الكاتب سعيد عنان في  "طريق الشعب" الصادرة في 14 يناير/ كانون الثاني 2023 إلى أن السامر نال درجة الدكتوراه أيضاً من مصر عن موضوع تاريخ قيام الدول كالدولة الحمدانية في الموصل وحلب".
فهل سمع يا تُرى طه حسين بدراسة الماجستير التي قدمها السامر لجامعة فؤاد الأول قبل نشر مقاله عن ثورة الزنج بمجلة الكاتب؟ سيما وأنه ظل كأستاذ جامعي ثم عميداً لكلية الآداب،نقول ظل على متابعة- كما يُفترض- بما يُقدّم من دراسات عليا طلابية فيها،فما بالنا بدراسة سبق له الحديث عن موضوعها باستفاضة. هذه من الأُمور التي لم نعرفها حتى الآن، بل لم يصرح عنها حسين نفسه. 
ومع أن " ثورة الزنج" ظلت موضع اهتمام العديد من الباحثين العرب، والعراقيين منهم بوجه خاص، لكن قد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا أن دراسة السامر هي الأهم والأكثر ريادية من بين كل الدراسات التي صدرت حتى الآن، إذ توخى فيها الباحث أكبر قدر ممكن من الموضوعية والأمانة التاريخية والدقة، بعيداً عن الانحياز الأعمى المتعصب أو التحامل على الثورة برمتها وتجريدها من أي إيجابيات، كما فعل أغلب المؤرخين التقليديين العرب الذين رموها-اعتباطيا- وقائدها صاحب الزنج علي بن محمد بالكفر والزندقة مسايرين في ذلك هوى خامديها، في حين كانت من الثورات التي تنشد العدالة والمساواة ولها مسبباتها الاجتماعية الموضوعية الوجيهة. وكانت دراسة السامر الأصلية ضخمة، إلا أنه حذف كثيراً من التفاصيل غير الجوهرية، على حد تعبيره في هامش صفحة التصدير(ص7) في النسخة التي بين أيدينا.
وإذا كان الباحث السامر لا يخفي منهجية بحثه اليسارية في دراسة وتقييم ثورة الزنج، فإن أهمية ما أثاره طه حسين في حديثه المسهب الرصين عن ثورة زنج البصرة تكمن في تقييمه لها من منطلقات علمية موضوعية متجردة، لم يستبعد فيه العوامل السياسية والاجتماعية التي أدت للثورة رغم ما يُعرف عنه من اتجاه ليبرالي إن صح القول.وهذا ما سنتناوله في المقال القادم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية