ظلت أسطورة المناضل العالمي الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا على مدى عقود مصدر إلهام لحركات التحررالعالمية في البلدان التي وقعت تحت نير الاستعمار، ولا سيما فلسطين التي ما برح شعبها يرزح تحت نير الأستعمار الإستيطاني الصهيوني، خصوصاً وأن مانديلا قد قضى زهاء ثلاثة عقود في سجون النظام العنصري المدحور، وخرج منها متوجاً بأكاليل الغار، ليؤسس مع رفاقه نظاماً دستورياً حراً ديمقراطيا، لامكان فيه لأرث وثقافة النظام السابق،كما كان لصموده النضالي الصلب الطويل، وشخصيته الفذة المتحلية بالقيم الإنسانية ونشد العدالة موضع احترام وتقدير العالم بأسره، وهو صاحب المقولة الذهبية الخالدة غداة انتصار شعبه على النظام العنصري: "نعلم أن حريتنا منقوصة بدون الحرية للفلسطينيين".
لا عجب والحال كذلك إذا ما خصصت له "اليونيسكو" يوماً دولياً ليحتفل العالم أجمع بذكراه العطرة في يوم ميلاده( 18يوليو)، ولا غرو أيضاً إذا ما نصبت له العديد من الدول تمثالاً يجسّد إبداعياً سيماء وجهه الطيّب وشخصيته السمحة المسالمة، لا بل أن بلده أهدت تمثاله البرونزي إلى الأُمم المتحدة.ومع أن كثرة من ساسة العرب ونخبهم تمنوا أن تكون مقاضاة الكيان الصهيوني دولياً على جريمة ارتكابه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة على يد دولة عربية، وتألموا -غضباً وخجلاً- من أن جنوب إفريقيا هي من أخذت على عاتقها هذه المبادرة،لكن "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"،ذلك بأن ليس بين دول العالم قاطبة دولة جديرة ومؤهلة برفع مثل الدعوى لدى أعلى منظمة تمثل ضمير الإنسانية، بمثل بلد مانديلا، بما تحمله من إرث وتاريخ نضالي حافل في مقاومة نظام الفصل العنصري المقيت "الأبارتايد" طوال نحو نصف قرن.ومن المفارقات التي لا تخلو من دلالة أن بُديء بتطبيقه في بلد مانديلا في سنة النكبة الفلسطينية 1948، وهو العام الذي شرع فيه الكيان الصهيوني المغتصب بتطبيق سياسة الفصل العنصري تجاه شعب فلسطين، سواء إزاء عرب 48، أو تجاه فلسطينيي الشتات، ضحايا ما ارتكبته العصابات الصهيونية بحقهم من مذابح وحرق لقراهم وتهجيرهم قسرياً إلى خارج وطنهم.
وبهذه المزية يُعد شعب مانديلا توأم الشعب الفلسطيني في المأساة المريرة المشتركة من "الأبارتايد" والتي لما يتخلص منها بعد، وشعب مانديلا أكثر من خِبر ذلك النظام العنصري المقبور، ومن ثم فهو أكثر من أحس بتبعات جرائم توأمه النظام الصهيوني على الشعب الفلسطيني.
لا مندوحة والأمر كذلك أن ترتعد فرائص "الكيان" من أن التي رفعت الشكوى على جريمة أرتكابه الإبادة الجماعية لدى محكمة العدل الدولية هي دولة مانديلا تحديداً، لما يعلمه أحق العلم بما تتمتع به هذه الدولة على الساحة الدولية من مصداقية عالية واحترام عالمي مرموق، ومستندة في مرافعتها داخل المحكمة التي تابعها العالم بأسره في ذلك اليوم التاريخي المشهود (11 يناير 2024) كونها من ضحايا الأبارتايد، وقد سبقها رئيس الحكومة الصهيونية العنصرية نتنياهو بتصريحات تنم عن الغطرسة والتعالي على دول العالم أجمع، بأن قال أن جيشه هو أكثر جيش في العالم "أخلاقيةً"،فإذا لم تستح فقل ما شئت. وفيما كانت إحدى القنوات العربية تنقل جلسة المحاكمة على نصف شاشة كانت تبث على نصفها الآخر مقاطع من جرائم الحرب التي يرتكبها هذا الجيش "الأخلاقي" في الوقت نفسه. وقد أبدع فريق بلد مانديلا أيما إبداع في مرافعاته بموضوعية وحجج دامغة قل نظيرها -من حيث موضوع الدعوى- في تاريخ هذه المحكمة، بحيث لم يجد فريق دفاع الكيان الغاصب في اليوم التالي سوى ترديد نفس الأكاذيب التي دأبت آلة الدعائية على اجترارها وقتلتها ابتذالاً منذ "يوم الطوفان" بحق رجال المقاومة، مثل قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وهو ما ردده الإعلام الغربي الصديق لإسرائيل ثم اضطر للتراجع عنه،كما كذبته لاحقاً الأسيرات الإسرائيليات المحررات!
وتحت التأثير المدوي الهائل لمرافعة فريق بلد مانديلا، انطلقت السبت الماضي مسيرات جديدة بملايين المحتجين في 45 دولة ذات 120 مدينة في العالم ووسط ظروف طقسية قاسية في أغلبها.
ولئن كان من المعروف في الأثر الإسلامي أن صون النفس البشرية أعظم من حرمة الكعبة،وإذ نتفهم على القياس غضب دول العالم الإسلامي مرات ومرات من رسوم "شارلي إيبدو" الفرنسية المسيئة للرسول (ص)،وكذلك حرق القرآن في بعض الدول الإسكندنافية، فكيف لنا أن نفهم بأن تضامن شعوب الدول الإسلامية، غير العربية، مع الشعب الفلسطيني المسلم وهو يقاوم وحده الإبادة الجماعية داخل القطاع ما زال ليس بقوة وزخم تضامن شعوب الدول الغربية وقواها السياسية الشريفة؟