العدد 5567
الخميس 11 يناير 2024
banner
العشرة واللقاء الثقافي الأشهر
الخميس 11 يناير 2024


كان من دواعي سروري أن لاقت هذه الزاوية ذات المواضيع المتنوعة في التراث والأدب والفكر والسياسة الخفيفة، إعجاب شريحة واسعة من كبار المثقفين والأدباء في بلادنا،فضلاً عن ثلة من مثقفي مصر وخليجنا العربي، إلى درجة أن دأب معظمهم على تقريظي وتشجيعهم لي بالمضي قُدماً فيها، ما أخجل حقاً تواضعي، فلهم مني كل الشكر والتقدير، آملاً  أن أكون دوماً عند حسن تقديرهم.
الأهم من ذلك فإن هذه الزاوية إذ شدت اهتمام بعض الكتّاب ممن يستهويهم هذا الضرب من القراءات والكتابة عنها، فقد كانت محفزةً لهم أيضاً بالعودة لبعض المصادر التي أعتمدت عليها، ومن ثم إعادةالكتابة من جديد عن موضوعاتها بأساليبهم الكتابية الخاصة، مع تطعيمها بما تجود به قريحتهم من إضافات ورتوش.ومن هذه المصادر أشير بوجه خاص إلى الحوارات التي كانت تجريها محطات التلفزةالعربية مع كبار مثقفينا وأُدبائنا العرب، وأخص بالذكر هنا عميد الأدب العربي الدكتور طه حُسين، والذي كان للتلفزيون العربي المصري ومحطات الماسبيرو الإذاعية معه صولات وجولات في هذا الصدد منذ أواخر ستينيات القرن الآفل حتى قبل رحيله بسنوات قليلة. ويأتي في صدارة تلك الحوارات، الحلقة التي استضافه فيها برنامج " نجمك المفضل" التي تقدمه المذيعة التلفزيونية ليلى رستم في شتاء 1966، بحضور عشرة من كبار الأدباء والمثقفين المصريين، سبق أن ذكرناهم فرداً فرداً في وقفة سابقة، وكان من بينهم المفكر الشهير محمود أمين العالم. وكان أن أثارت تلك الحلقة في حينها جدلاً عاصفاً بين الأوساط الإعلامية والثقافية المصرية، ومازالت إلى يومنا موضع اهتمام وتعليق عدد من الكتّاب والمثقفين بين الفينة والأُخرى.فلا غرو والحال كذلك إذا ما وصف الكاتب والروائي المصري ياسر عبد الحافظ عن حق هذا اللقاء الثقافي بأنه أشهر لقاء ثقافي على شاشة التلفزيون المصري (أخبار الأدب،22 أكتوبر 2223). ومع أن عبد الحافظ أفاض بإسهاب في مقال له بهذا العدد في تحليل وقائع اللقاء، إلا أنه في تقديرنا أصاب في جوانب منها، وخانه التوفيق في جوانب أُخرى. وتالياً أربع نقاط أحسبها مهمة، سواءً المتعلق منها فيما أثاره الكاتب أو ما أثاره غيره من الكتَاب حول الحلقة:  
أولاً: لم يكن مبرراً على الإطلاق استضافة طه حسين، هذا العلَم الكبير من أعلام الأدب والفكر العربي، وهو على تلك الحالة المرضية الحرجة، وإذا كانت مقدمة البرنامج حاولت أن تنوه مقدماً للمشاهدين بأنه "الآن" في صحة جيدة، فما كان ينبغي الركون على حالة عابرة من التحسن للمريض، بحيث يُحمّل فوق طاقته، ويُقحم في حوار دسم جاد طويل وبذلك العدد الكبير من المتحاورين العشرة! 
ثانياً: في تقديرنا كان الكاتب المرحوم أنيس منصور يتحمل جزءاً من المسؤولية؛ باعتباره كما يبدو من سير وقائع اللقاء، ومن مقال أيضاً نُشر له في صحيفة "الأخبار" بتاريخ 4 مارس 1966، العريف المنظّم للقاء. فلم يكن لائقاً في تقديري توجيه له ذلك الانتقاد القاسي الذي خص منصور به عميد الأدب العربي في هذا المقال، حيث تنطوي بعض فقراته على شيء من المنة التي لا يليق التفوّه بها من الناحية الإنسانية حتى والعميد في أوج قوته، فما بالك وقد أعياه المرض و بلغ من العُمر عتيا. ومن جملة ذلك قوله: " لم يكن في الاستطاعة أن يقول طه حسين أكثر أو غير ماقال، فهو مريض جداً فنحن حملناه على مقعد إلى الدور الأرضي ليجلس أمام كاميرات التلفزيون، وأنا أعلم أكثر من غيري أنه بين لحظة وأُخرى قد ينهار، وتعاوده حالة الإغماء التي تصيبه مرة أو مرتين في اليوم الواحد، أو نفاجأ نحن بالسيدة حرم طه حسين فتهدم كل ما في البيت على رؤوس كل من في البيت من أدباء ومهندسين."! الأدهى والأغرب أن أن منصور أضاف قائلاً:" تواصينا على عدم ارهاق  طه حُسين وأن نتركه هو الذي يقول مايريد،ولا يهم أبداً ما نقوله نحن، فلا يزال أمامنا الكثير من الوقت لنقوله في الصحف وفي الإذاعة وفي التلفزيون، وليس هناك الكثير من الوقت أمام عميد الأدب العربي ..."! ولعل أي متتبع لسير الحوار يدرك تماما بأن ماجرى عكس ما نوّه به منصور في مقاله، فبعد ما كان متوافق عليه أن يكون لكل فرد من المثقفين العشرة سؤال واحد فقط، تداخل معظمهم أو كلهم بأكثر من مداخلة وسؤال. ورغم إعطاء ضيف الحلقة أكثر من إشارة في رغبته في إنهائها وابداء تململه الواضح من طولها كانت مقدمة البرنامج رستم تلح عليه، وإن بصورة لبقة محرجة على مواصلة الحوار، حتى بلغ زمن الحلقة أكثر من ساعة واحدة! 
فهل كان ذلك يصب في تجنب إرهاقه وإصابته بالأغماء التي يتعرض لها في اليوم الواحد بين مرة أو مرتين على حد تعبير منصور؟ وهل تخيـل أحد من العشرة ومقدمة البرنامج للحظة واحدة مدى حاجته الطبيعية لدورة المياه أو لشرب كأس من الماء وهو على تلك الحالة؟ 
لعلي أزعم بأن ما أثار حفيظة الكاتب أنيس منصور إزاء ذلك اللقاء الأشهر تصريح العميد في رد على سؤال أثاره الأول بأنه لم يفهم شيئاً من عبقريات عباس محمود العقاد، وهذا ما توافقت معه فيه،سيما وأن واحدةً من تلك العبقريات كانت مقررةً علينا في الثانوية العامة، كما نوهت بذلك في وقفة سابقة، وإن كانت الأمانة تقتضي القول أن العالم هو أيضاً لم يكن راضياً على نقد العميد للعقاد بتلك القسوة، وكان هذا الأخير قد غادر دنيانا قبل عامين من بث اللقاء الثقافي الأشهر .  
ثالثا: بالرغم من قدراتها كمذيعة تلفزيونية،إلا أن ليلى رستم المتخصصة في الصحافة والإعلام، لم تكن -إن صح تقديرنا- تتمتع بالخلفية الأدبية والفكرية الكافية لإدارة حوار طويل مهم مع نخبة من كبار المثقفين والأُدباء،عدا أنها لم تكترث البتة بالسيطرة على وقت البرنامج،في حين كان بإمكانها أن تلعب الدور الأول لإنقاذ العميد من هذه الورطة دون أن يصيبه ما لا يُحمد عقباه.  
ثالثا: في تقديري أن اللقاء الذي جمع العميد مع ثلاثة أدباء ومثقفين مصريين، ومن بينهم المفكر والناقد محمود العالم وقد سبق لي التحدث عن هذا اللقاء الذي جرى في أربعينيات القرن الفائت،كان أكثر  ما أثار هذا الأخير-كما أسلفت- هو اهتمام طه حسين بما أثاره الثلاثة من قضايا ومستجدات سياسية أكثر مما أثاروه من قضايا أدبية ونقدية، وهذا ما أقره العالم نفسه في كتابه" مواقف نقدية من التراث" الصادر بدون تاريخ  عن دار " قضايا فكرية" التي تحمل اسم الفصلية المهمة التي كان يصدرها.  ويُرجّح أن الكتاب صدر عام 1997 إذا ما صح الاستناد إلى رقم الإيداع ( ٩٧/٢٠٨٢)، علماً بأن العالم كتب عن ذلك اللقاء في غير مصدر.
رابعاً وأخيراً: لعل المتتبع لما يكتبه بعض مثقفينا العرب عن طه حُسين تساوره شكوك أحسبها مشروعة عما إذا كانوا قد قرأوا أصلاً الحد الأدنى المُفترض من كنوز تراثه الأدبي واللغوي والفكري العظيمة قبل تصديهم للكتابة عنه، اللهم إلا قراءات سريعة عابرة، سيما وأن منهم من تستهويه الكتابة عن الروايات العربية والعالمية،فضلاً عن مذكرات مشاهير الأدباء والمفكرين، بل باتت تستهويهم الموضوعات اللغوية، وتحضرني هنا ثلاثة أعمال كبرى من أعماله التي تُعد على درجة كبيرة من الأهمية مثل: "في الشعر الجاهلي" و "الأيام" ورواياته المعروفة مثل "دعاءالكروان" و" الحُب الضائع"و"أحلام  شهرزاد"، بالإضافة إلى "لوعد الحق"، فضلاً عن مذكراته " الأيام"، سيما أن هذه الروايات قد حْوّل بعضها إما لأعمال درامية سينمائية أو تلفزيونية وإذاعية.  

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية