العدد 5559
الأربعاء 03 يناير 2024
banner
اختبار السقوط
الأربعاء 03 يناير 2024

قد لا يسجل التاريخ لأمة في التاريخ المعاصر كما يسجل للولايات المتحدة الأميركية إنجازاتها الكثيرة والعظيمة للإنسانية.. فهي الدولة التي حققت إنجازات علمية عظيمة للبشرية. وهي اكتشافات حصد علماؤها أكبر وأكثر الجوائز شهرة في العالم. ويكفي القول إن ما لا يقل عن 353 من الحاصلين على جائزة نوبل في علومها المختلفة قد جاؤوا من الولايات المتحدة، ما يمثل 61 % من الحاصلين على هذه الجائزة.. كما أن جل إنجازات واكتشافات الفضاء على مستوى العالم هي في الأصل أميركية.. وهي أكثر دولة حققت إنجازات مهمة على مستوى الطب والتطبيب والدواء، وهي في جلها إنجازات حققت قدرا من الرفاه الصحي والاجتماعي للبشرية عموما. كما أنها، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، مثلت الدولة التي باشرت حكوماتها المتعاقبة قضايا حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، بل لربما الدولة التي يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الحريات المدنية والسياسية، لا يتمتع به أي مجتمع آخر.. وهي لكل ذلك وآخر لم نأت على ذكره، مثلت جوهر الحلم الأميركي الذي حلمت به كل الشعوب الفقيرة والمقهورة.. وهي بفعل حضورها العسكري والاقتصادي الضخم في اليابان وأوروبا وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وغيرها، قد حققت لهذه الدول قدرا كبيرا من الرخاء الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك قدرا مهمًا من الاستقرار السياسي.. وهي لذلك برزت الدولة المدافعة عن حقوق الإنسان والأقليات في العالم، كحقوق الأكراد ومسلمي البوسنة والهرسك والروهنجا في بورما، ومسلمي الصين، وغيرها، ومدافعة عن حقوق الأقليات في تقرير مصيرهم في تيمور الشرقية وفي يوغسلافيا القديمة قبل تفككها، وفي جنوب السودان وفي كردستان.. وغيرها، بل إنها قد طاردت قادة دول وقادة عسكريين سابقين ولربما حاليين بتهم ارتكاب مجازر ضد الإنسانية.. في كمبوديا وفي البوسنة والهرسك وفي رواندا وفي جنوب السودان.. وهي لذلك قد عملت ولربما ضغطت من أجل إدانة الرئيس السوداني السابق جعفر النميري، وإدانة الرئيس الروسي الحالي بوتن بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. إلا أنها وفي ذات الوقت تُبرئ بل تبعد نفسها من أن يكون قادتها السياسيون أو العسكريون قد اقترفوا مجازر ضد الإنسانية في فيتنام وأفغانستان والعراق.. وغيرها.. حيث تحصن نفسها بترسانة من الضمانات والحصانات القانونية والسياسية تبعد قادتها من أي ملاحقة أو مساءلة قانونية على مستوى الداخل والخارج، وهي قد تستخدم نفوذها وحضورها القوي على مستوى المنظمات الحقوقية الدولية لتحقيق ذلك.. فآلتها العسكرية ومؤسستها أو بعض قادتها العسكريين، بقرار أو دونه، قد اقترفوا أفضع الجرائم ضد الإنسانية، في حروبها في فيتنام وفي أفغانستان وفي العراق، أو في غطائها أو حمايتها لجرائم الطبقة العسكرية التي قادت الانقلابات العسكرية على حكومات منتخبة في أميركا اللاتينية، وسابقا للنظام العنصري في جنوب إفريقيا، وقبل التحول الديمقراطي في كوريا الجنوبية، وإبان الحكم العسكري في إندونيسيا.
وهي في الوقت الذي تفضح تقارير وزارتها الخارجية، وفي مقالات جرائدها الرئيسة كنيويورك تايم والواشنطن بوست.. وغيرها، كل أو بعض الانتهاكات الإنسانية في دول العالم الأخرى ولربما في الداخل، إلا أن مواقفها مما يحدث في غزة من مجازر ضد الإنسانية وهدم وسحق لإنسانية الإنسان لم يحرك فيها كإدارة ساكنا لافتا، بل إنها بررت ودافعت عن كل ما قامت به إسرائيل من انتهاكات وسحق وحشي لكل أشكال الحياة وللناس والمجتمع خلال الثلاثة أشهر الماضية، والذي وصفه مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل بأنه “يفوق ما تعرضت له المدن الألمانية في الحرب العالمية”، وكما يقول فريدمان “هي واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية على هذا الكوكب”. بل إنها قد فتحت منذ اليوم الأول مخازن ذخيرتها وبشكل لا محدود ودون ضوابط لحاجات الآلة العسكرية التدميرية الإسرائيلية. وهو سقوط قد انزلق مع السقوط الأخلاقي الإسرائيلي وهو المُنزلق منذ عقود. وهي العقود الذي فقد فيها اليسار والتيار الليبرالي الإسرائيلي أي تأثير على اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي، الذي بات في جله قد اتجه نحو اليمين واليمن المتطرف. بل إنه لم يعد هناك يسار في الطبقة السياسية الإسرائيلية، بل تيارات يمينية أو يمين متطرف كجماعة بن غفير وغيرهم. ويتجلى هذا الانزلاق في القبول بهمجية ما تعمله الآلة العسكرية الإسرائيلية بحق غزة والفلسطينيين. وهي همجية تنزع نحو القضاء على كل مصادر الحياة أو استمراريتها في المجتمع الفلسطيني. 
وهو تنكيل يصل في كل عناصره لحالة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني.. وهي النزعة التي تتشكل وفقها وعليها كل الجماعات العنصرية والشوفينية، أو بالأحرى هي النزعة التي تشكلت وفقها كل الجماعات الصهيونية المتطرفة في المجتمع اليهودي في فلسطين. وهو تشكل يعيد تشكيل نفسه مع تشكل الجماعات اليمينية المتطرفة من أمثال جماعات بن غفير وسمورترج وغيرهم. وهو تطرف بات يشكل كل الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل. وبالتالي أي انفراجة في موقفها من الحرب لن تكون ممكنة كما يقول الكاتب الأميركي توماس فريدمان “إن الوقت قد حان لكي تطلب أميركا من إسرائيل إيقاف الحرب وأن تنسحب بالكامل من غزة”، أي لن يكون ممكنا أن توقف الحرب دون تدخل واضح ومؤثر من قبل الإدارة الأميركية التي وبفعل تكوينها ما زالت أسيرة الموقف الإسرائيلي المتشدد، ولربما القابل بالرواية الإسرائيلية للحرب على غزة، أو أنها كما يرى البعض غير راغبة في كبح “الجموح” الإسرائيلي، بل أن تتعامل مع حدث غزة وكأنه قد بدأ يوم 7 أكتوبر وليس نتاج لسياسات متراكمة قاربت السبعة عقود أو أكثر.
وقد كشف العمل العسكري الإسرائيلي في غزة حجم التحلل الإسرائيلي من الضوابط القانونية الدولية والأخلاقية فيما يتعلق بالسكان ومصادر حمايتهم أثناء الحرب، وهو تحلل يخص دولة يفترض أنها تخضع لقوانين وضوابط محلية ودولية في عملياتها، ولا نتكلم عن تنظيم أو جماعة عسكرية أو سياسية غير حكومية قد لا تكون معنية بهذه القوانين والضوابط. كما أنها كشفت كذلك هشاشة الضعف التنظيمي والاستراتيجي لأقوى وأهم مؤسسة عسكرية في الشرق الأوسط، وهي تعرية تفسر في بعضها رد الفعل “الهمجي” لضرب وتدمير كل مصادر الحياة في المجتمع الغزاوي وإمكاناته. وهو رد فعل لا يخفي ما سرب في مصادر الإعلام الإسرائيلي من رغبة الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل في تهجير الفلسطينيين من دول الجوار عن ما تبقى لهم من الأرض الفلسطينية. وهي سياسة ككل سياسات التطهير العرقي، لا تخلو من مصاحبات سياسية تدميرية على المجتمع الإسرائيلي نفسه، والذي تلفه انقسامات عرقية وسياسية مدمرة.
وأخيرا وكما تقول مجلة الفورين أفيرز، فإنه حتى إذا ما تم أو تمكنت الضغوط من إزاحة أو تنازل نتنياهو عن السلطة، فإن إمكان الحصول على صانع سلام إسرائيلي من الطبقة السياسية الإسرائيلية القائمة، لا يبدو ممكنا حتى من ضمن صفوف المعارضة. فإن رغبة الإدارة الأميركية، وكما تقول الفورين افيرز، في حل الدولتين، لا تبدو ممكنة. أولا، لأسباب متعلقة بالتحولات العميقة التي أصابت الثقافة السياسية للطبقة الحاكمة الإسرائيلية، والتي هي في واقعها وجلها يمينية متطرفة، ولا ترى الحل مثل كل القوى الاستعمارية، بعيدا عن سياسة الترانسفير أو السحق، وثانيا عجز الإدارات الأميركية المتتالية عن الوعي بالحق الفلسطيني، وهي حالة خلقت طبقة فكرية وسياسية ولربما شبكة من قنوات التفكير، لم يشكل لها هذا الحق ضرورة تتطلب عملا سريعا وقويا وعادلا كما مارسته هذه الإدارات في مناطق مختلفة من العالم: في جنوب إفريقيا وفي تيمور الشرقية وجنوب السودان، بل موقفها المساند لحق أكراد العراق وسوريا في تقرير المصير لولا الموقف التركي والإيراني المعارض، وهو وعي لا يقود بالضرورة لتوظيف كل مصادر الضغط والقوة التي تمتلكها أميركا على إسرائيل، وهي في حقيقة الأمر مصادر ضغطية هائلة ومتعددة. وقد نضيف إلى ذلك قوة تغلغل اللوبيات الإسرائيلية في الإدارة والإعلام الأميركي، رغم اقتناعي بأهمية القوة الأميركية كقوة وازنة في الصراعات الدولية.
كلمة أخيرة، وهي أن الحرب الإسرائيلية على غزة ستـأتي معها بالكثير من الآثار والتغيرات، لا تقل من حيث أهميتها وخطورتها عن تلك التغيرات التي جاءت على المنطقة مع كل حروب العرب مع إسرائيل.. وإذا ما كانت حرب يونيو من العام 1967 وحرب تدمير المنظمة في بيروت العام 1982 قد خلقت تحولات مهمة على الصعيد السياسي والفكري العربي، وهي حروب أفرزت الكثير من القوى السياسية الجديدة، والتي هي في أطروحاتها وتوجهاتها الإيديولوجية تفوق القوى التي حاولت إسرائيل تدميرها، بل إنها قوى بدت أكثر عداء لإسرائيل وأميركا والغرب.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية