العدد 5554
الجمعة 29 ديسمبر 2023
banner
رسائل من بيت لحم
الجمعة 29 ديسمبر 2023


تختلف حرب غزة الدائرة الآن عن غيرها من الحروب السابقة، فحجم العملية غير المسبوقة التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر وما تلاها من ردّ فعل تحوّل إلى عدوان همجيّ تمارسه إسرائيل على الأبرياء في غزة، وما أظهرته المقاومة الفلسطينية من قدرة على الاستمرار، ولاسيما في حرب الشوارع، جعلت المشهد مختلفا؛ فلا أفق منظور لوقف وتيرة العمليات العسكرية، بل هاهي الحرب تُجاوِز يومَها التسعين، وها هي الجثث المتحللة تملأ المكان في غزة، وهاهي الدولة المحتلة تلتقط أشلاء مقاتليها، ولا صوت يعلو فوق صوت الدمار. واقتربت أعياد الميلاد المسيحيّة أواخر ديسمبر الجاري، وأحيت بيت لحم في الضفّة الغربية هذه المناسبة دون احتفالات، بل في حزن واضح وصمت عميق بسبب حرب غزة، نعم لقد أُلغيت الاحتفالات بأعياد الميلاد للطوائف المسيحية هذا العام، وغابت شجرة عيد الميلاد في مدينة بيت لحم، وغابت الأضواء والزينة المعتادة للشجرة، وخلت ساحة كنيسة المهد تمامًا من الزوار، وهي التي تشهد في كل عام حشودًا كبيرة من الزوار والمصلين في داخل الكنيسة، ولم يُبقِ القائمون على هذه المناسبة إلا على الصلوات والشعائر الدينية.
هو مشهد قد يكون الأول من نوعه منذ عقود، بل منذ نكبة العام 1948، مشهد معبّر عن مدى تماسك الروح الفلسطينية المحبة للسلام بمختلف أطيافها وانتماءاتها الدينية؛ لقد قُرعت الأجراس وأُقيمَت الصلوات من أجل انتهاء الحرب في قطاع غزة، وفي ساحة الكنيسة التاريخية، وضعت إحدى الفنانات الفلسطينيات مجسمًا لـ "الطفل يسوع" داخل حضانة بين قطع إسمنتية، وقد سجي فوق كوفية بيضاء وحمراء، في إشارة إلى الأطفال الخُدّج الذين عانوا من الاعتداءات على المستشفيات في غزة، وكذلك في إشارة إلى معاناة السيد المسيح المتجددة ومعاناة المؤمنين بمبادئ السلام بسبب هذا الدمار وركام الحرب. 
لقد أرسلت بيت لحم بما تحمله من رمزية دينية في العالم منذ أيام قليلة، بمناسبة أعياد الميلاد، رسالة عزاء للفلسطينيين في قطاع غزة، ورسالة أخرى للعالم بأسره لوقف قتل الأطفال والأبرياء ووقف الحرب فورا، ورسالة تضامن وشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه ما يحدث للأطفال الأبرياء، وكأنهم يقولون كيف نحتفل ونعبّر عن مشاعر الفرح والأطفال الأبرياء يُقتلون كل حين، بل اعتقد أحد القساوسة أنّ السيد المسيح لو كُتِبَ له اليوم أن يُولد فَسيولد تحت الركام في غزة تضامنا مع هؤلاء الأطفال، واعتبر آخر أنّ معنى الميلاد الحقيقي هو ميلاد المسيح مع المهمّشين وتضامنه مع المتألمين والمظلومين.
كل هذا يحدث والجميع ينشد السلام، ويتغنّى به في المحافل الدولية، كل هذا يحدث والبحث لا يزال جاريا عمّن يستطيع إنفاذ قرارات الأمم المتحدة لإحلال السلام في فلسطين والشرق الأوسط، قرارات امتلأت بها أدراج مكاتب رؤساء هذه المنظمة من أوّلهم إلى آخرهم.

كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .